مطبوعة مقدمة لطلبة سنة أولى ماستر "تخصص: تاريخ وحضارة المشرق الإسلامي"

                                                  من إعداد الدكتور(ة): سناء عطابي

السنة الدراسية 1443-1444ه/ 2022-2023

محتوى المادة:

.ماهية الدولة في التشريع الإسلامي .

. بيعة العقبة .

. حكومة النبي (ص).

. نظام الشورى.

أهداف التكوين:

• استكشاف الطالب للتجارب السياسية الإسلامية في الحكم.
• الاطلاع على الإنتاج السياسي بعد قراءة ونقد هذه التجارب السياسية.
• التعرف على الفكر السياسي في بلاد المشرق ونظريات الحكم.
• المقارنة بين الفكر السياسي ومحاولات تطبيقه من طرف الفرق وأهل الحل والعقد والسلطات المختلفة في بلاد المشرق الإسلامي والصراعات التي حدثت بسببه.
• كيفيات تأسيس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة.
• . كيفية انتقال الحكم إلى الخلافة الراشدية
• المعارضة وأشكالها من ناحية الفكر والمشاريع العسكرية

.

1/ مقدمة:

       خاطبت المصادر التشريعية العقل الإسلامي ودعته إلى ضرورة الاستفادة من تجاربه وتجارب الأولين، لتكوين رصيد فكري عقدي-فقهي يهدف إلى تقويم وجوده على الأرض وأداء رسالته وتجسيد الحكمة من خلقه، وتعد خلافة الإنسان في الأرض ضمن الاهتمامات التي شغلت هذا العقل ودعته إلى التأسيس لاتجاه يعالج القضايا والمسائل المرتبطة به، اعتمادا على مصادر الشرع وعلى تجارب الشعوب التي سبقته وهو ما حدث بعد ترجمة التراث اليوناني والفارسي والسرياني إلى اللغة العربية ، وأحدث هذا الأمر نقلة نوعية في التأسيس لفكر يستند إلى أصول من القرآن والسنة من جهة ومن جهة أخرى يقدم لنا تجربة المسلمين منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في التأسيس لدولة يتم بناؤها وفقا لفهم وتطبيق تعاليم الدين الجديد.

       إن بناء الدولة واجتهادات الخلفاء في كل عصر وزمان أسال مدادا للتشريع والتأصيل ووضع الضوابط التي تقوم عليها الدولة، لاستنباط مدى قدرة المجتمعات الوسيطة على صياغة القوانين اللازمة لضبط سلطة الحاكم ومنع إطلاق يده لتقرير مصير الأمة دون وثيقة أو أحكام أو قانون رادع ومقيد لتصرفاته؛ على هذا الأساس أفرز الفكر والتفكير العربي الإسلامي مؤلفات هامة سميت بالآداب السلطانية تضمنت مفردات للتنظيم والتقييد أحيانا وللنقد أحيانا أخرى ولتبرير تصرفات السلطان في كثير منها أو بصيغة أدق ليجد له المفكر الصيغة الشرعية لطرق ووسائل تسييره للدولة.

     لابد من الإشارة والتنبيه إلى أن هذا الفكر استمد حريته الفكرية من كون القرآن والسنة اكتفيا بذكر المسائل المرتبطة بالخلافة والدولة أو الإشارة إليها بصيغ متعددة مثل: الاستخلاف، العدل، الشورى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن يفصل فيها ويحسم كل خلاف بين أهل الكلام والفقه على غرار العبادات مع أهميتها وحاجة الأمة للفصل فيها.

       هذا الأمر جعل من تقديم المقياس للطلبة لربط الفكر بالواقع التاريخي ضرورة هامة خاصة أنه سيطلع على الأحداث الكرونولوجية التي ميزت التاريخ الإسلامي في أغلب فتراته، وبالتالي فهو بحاجة أمس إلى الاطلاع على التطور الفكري السياسي بالموازاة مع التطور التاريخي.

     الطالب يحتاج إلى معرفة الآراء والتجارب التي عاشتها الخلافة الإسلامية على مدى امتداد العصر الإسلامي الوسيط، فكيف ساهمت المؤلفات السلطانية في إعطائنا مختلف التشريعات لتأسيس الدول وبنائها وتسييرها؟ هل قدمت لنا مفاهيم واضحة لمصطلحات الدولة وما ارتبط بها؟ كيف تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم بأقل الإمكانيات وفي ظل ظروف عصيبة من بناء مجتمع يتوفر على عناصر سياسية تعجز النظم الحديثة عن التنظير لها وتجسيدها؟ ما هي الخطوات التي اتبعت لناء الدولة النبوية الجديدة؟ ما هي أركانها ومعالمها؟ هل يمكن أن نقول أن المجتمعات الإسلامية جسدت الشورى في مسارها السياسي والتاريخي؟ ماذا أنتج المسلمون من فكر سياسي لمنافسة ما قدمته الشعوب الأخرى؟

    لابد من التنبيه من البداية إلى أن العناصر المبرمجة في عرض التكوين غير كافية لفهم وإدراك الكثير من النقاط المتعلقة بالتشريع الإسلامي وعلاقته بالجانب السياسي؛ تحتاج الدراسة البيداغوجية لتأصيل المصطلحات وتوضيح الصورة للطالب قبل التعمق في محاور المقياس، وهو أمر مهم نحتاج لأن نبثه في الطلبة من خلال الرجوع إلى القواميس والمعاجم المعاصرة لموضوع التخصص والمقياس المدرس، بالإضافة إلى الموسوعات والمعاجم الاصطلاحية والفلسفية الحديثة، واجتهادات الدارسين والباحثين ومجموع الأساتذة المتخصصين أو ممن لهم تخصصات تقرب المفاهيم وتساعد على حسن استيعاب كل المعلومات والمعطيات التي يقدمها الأستاذ.

    من هذا المنطلق أردت الانطلاق من مفهوم الفكر الإسلامي ثم التخصص في مفهوم الفكر السياسي الإسلامي كميدان خاض فيه علماء الإسلام في فترة العصر الإسلامي الزاهر وحتى العصور الحديثة.

    من الضروري معرفة الطالب أن مسائل الإمامة وأحقية الحكم فتحت نافذة للتأليف فتركت لنا فترة العصور الإسلامية الزاهرة رصيدا من الأدبيات التي لا يمكن إحصاؤها لكن اكتفيت بذكر مجموعة واسعة منها في ملاحق المطبوعة؛ كما أن الباحثين والدارسين المحدثين قدموا لنا كتابات دقيقة وعميقة للموضوع لا يمكن إحصاؤها في هذه المقدمة.

2/- مفاهيم ومصطلحات مرتبطة بالفكر السياسي الإسلامي:

1/- مفهوم الفكر الإسلامي

الفكر:

لغة:

ورد الفعل "فكر" لدى ابن منظور[1] وقال فيه:

"الفَكْر والفِكْر: إعمال الخاطر في الشيء"

"الجوهري: التفكر التأمل"

"يقال ليس في هذا الأمر فكر ليس فيه حاجة"

من خلال قراءة هذا النص أو هذا الشرح ومقارنته بالمعاجم الأخرى[2] فإننا نجد أغلب المعاني المرتبطة بمادة فكر تصب في معنى التأمل وإعمال العقل، واستنباط أو الانتباه إلى مسائل جديدة.

اصطلاحا:

      من الناحية الاصطلاحية نستهل بما قدمه علماء المسلمين معنى للفكر والتفكر فنجد:

أبو حامد الغزالي[3] يقول: "ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم..." ويقول أيضا: "اعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة...وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة...فالمعرفة نتاج المعرفة، فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتاج آخر وهكذا يتمادى النتاج وتتمادى العلوم ويتمادى الفكر إلى غير نهاية"، نلاحظ أن هذا العالم الفيلسوف الذي يعود إلى القرن 5ه/11م يجعل من معنى التفكر الذي ورد في القرآن الكريم القاعدة اللغوية والعلمية التي استخلص منها المفهوم الاصطلاحي الذي يقف على بناء المعرفة اعتمادا حسب ما تم التوصل إليه من معارف سابقة.

وقد انتقيت بعض المفاهيم قدمت لتحديد معنى الفكر، منها:

ما ورد في المعجم الفلسفي[4] فإن الفكر: "هو جملة النشاط الذهني من تفكير وإرادة ووجدان وعاطفة بوجه خاص: - ما يتم به التفكير من أفعال ذهنية /- اسم لصورة العمل الذهني، بما فيه من تحليل وتركيب وتنسيق"

"الفكر اسم لعملية تردد القوى العاقلة المفكرة في الإنسان، سواءً أكان قلبا أم روحا أو ذهنا بالنظر والتدبر، لطلب المعاني المجهولة من الأمور المعلومة، أو الوصول إلى الأحكام أو النسب بين الأشياء"[5]

من هذه المعطيات اللغوية الاصطلاحية العامة قدم أحد الدارسين مفهوما للفكر الإسلامي بشكل مخصص عن عموم الفكر ذكر فيه:

"إن الفكر الإسلامي هو حصيلة ما أنتجه العقل المسلم، منذ نزول قوله تعالى: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَق﴾ العلق:1، إلى ساعة نهاية الوجود الإنساني، في مختلف الموضوعات، في مختلف الموضوعات والإشكالات والقضايا المرتبطة بحياة الإنسان، مسلما كان أو غير مسلم، وبذلك فمجال دراساته وبحوثه يتسع لكل قضية يستطيع العقل أن يمارس فعله فيها بالتفكير والنظر والتحليل والاستنباط..."[6]

من خلال ما ورد من معاني ومفاهيم، نجد أن الفكر هو ما يندرج في قراءة الواقع سياسيا ومذهبيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وصياغته بشكل فلسفي يستند إلى ما تم تداوله نظريا أو ممارسته بشكل عملي، وبذلك يتكون رصيد متواتر شفويا أو تأليفا، وكلما أصبح راسخا في الذهنية التخبوية والعامة كلما أصبح يعبر عن هوية وثقافة وشخصية تلك المجتمعات وينسب إليها دون غيرها.

السياسة:

لغة:

جاء في لسان العرب[7]لابن منظور السياسة من الأصل "سوس"، وورد فيه:

"السوس الرياسة، يقال ساسوهم، يقال ساسوهم سوسا، وإذا رأَّسُوه قيل: سوَّسُوه وأساسوه "

"ساس الأمر سياسة قام به"

"الجوهري: سست الرعية سياسة، وسوس الرجل أمور الناس إذا ملك أمرهم"

"والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه"

"ومن الدلالات اللغوية للسياسة: التدبير والإصلاح، أي القيام على الشيء بما يصلحه"[8]

" وقد ورد في كلام عمرو بن العاص، يصف به معاوية فيقول: وجدته ولي المظلوم والمطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير..."[9]

وما نلاحظه من خلال هذا التعريف اللغوي أن السياسة تعني ولاية أمور الرعية والقيام على مسؤولية قوم، وتدبير أمورهم وإصلاحها.

اصطلاحا:

عرف علماء المسلمين السياسة بم لا يتعارض مع المصطلح اللغوي:

 "السياسة: حياطة الرعية بما يصلحها لطفا وعنفا"[10]

"لا سياسة إلا ما وافق الشرع...السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد"[11]

"هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل"[12]

وردت عدة اجتهادات لتعريف السياسة عموما، وهي لا تخرج عن إطار ممارستها في الدول الإسلامية منذ نشأتها الأولى، فقط يبقى الرجوع والامتثال إلى الشرع هو الفاصل بين ممارسة السياسة في ضمن هذا الإطار الجغرافي، نذكر منها:

-احتراف الحكم والسلطان؛ أي ممارسة السلطة على الناس في المجتمع؛ ومن المفكرين من يعرف السياسة بأنها اجراءات لتحقيق القيم الدينية والاقتصادية في سلوك الناس وعلاقتهم ونظام حياتهم؛ ومنهم من يرى أنها نظريات لتنظيم المجتمع وعلاقات البشر[13].

-"للسياسة معنى عام يتصل بالدولة والسلطة، فهي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، وتدبير أمورهم"[14]

- "وتعرف السياسة بأنها تنظيم لأمور الدولة وممارسة السيادة داخليا والعناية بمصالح وشؤون الفرد والمجتمع، داخل الدولة وخارجها؛ ولما كانت السياسة أساس الحكم لذا سميت أفعال ولي الأمر بالسياسة"[15]

وقد ذهب كل من الأحناف والحنابلة والمالكية إلى أن السياسة لا تقف عند حدود النصوص الشرعية بل تذهب إلى روحها[16]:

• قال الأحناف السياسة داخلة تحت قواعد الشرع، وإن لم ينص عليها بخصوصها.
• وقال القرافي المالكي: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع، بل تشهد له الأدلة والقواعد.
• وقال ابن عقيل الحنبلي: للسلطان سلوك السياسة وهو الحزم عندنا، ولا يخلو من القول فيه إمام، ولا تقف السياسة على ما نطق بها الشرع.

أما الشافعية فالسياسة عندهم يجب أن تكون في حدود الشريعة لا تتعداها، فلا سياسة إلا وفق الشرع[17].

     من الضروري جدا التأكيد على أن مصطلح السياسة ارتبط بشكل دائم مع تعاليم الشرع، وجاء مصطلح السياسة الشرعية كتعبير عن ممارسة الرياسة والإمامة وكل ما ارتبط بها من وظائف في إطار حدود الشريعة، على هذا الأساس وبعد الاطلاع على معاني السياسة، نعرف الشريعة حتى يتحقق المعنى التام للمصطلح.

الشريعة: ما شرعه الله لعباده من الدين أي من الأحكام المختلفة، وسميت هذه الأحكام شريعة لاعتبار وضعها وبيانها واستقامتها، وهي موجودة في القرآن والسنة النبوية، أوحى بها الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم ليبلغها للناس[18].

إذن يمكن تعريف السياسة الشرعية على أنها: تدبير أمور الرعية والقيام بمسؤولية الإصلاح العام للمجتمع، وتحقيق العدل بين الناس وفقا لما تقتضي الأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الرعيل الأول من صحابة رسول الله وتابعيهم.

    وإذا دققنا في مفهوم الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، وجدناهما تحققان معنى واحدًا، وهي جعل الشريعة[19] مصدرا تستمد منه السلطة قوانينها وقيمها، وحدودها التي تطبقها بهدف حفظ النظام العام بالدولة، ونستدل هنا أن موضوع كتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم الجوزية هو: "القضاء وطرق الإثبات والسياسة الشرعية في التي يجب على الأمراء والحكام والقضاة أي يسلكوها ويقفوا عندها، ولا يتجاوزوها في كل مكان وزمان، لتحقيق الصلاح للناس وإبعاد الفساد..."[20].

   نعرج أيضا على توضيح معنى:

الأحكام السلطانية:

مصطلح مركب من مفردتين، الأولى الأحكام وتعني: كل ما يفرضه الشارع على أفعال المكلفين، من: واجب وحرام ومندوب ومكروه ومباح، السلطانية: تعني كل الأحكام الشرعية التي ترتبط بالسلطان، فتوجه أفعاله، وتنظم قوانينه، وتحدد واجباته، وتضبط حقوقه مع الرعية ومع الله، وإن كانت الاجتهادات موجهة هنا لمعرفة مفهوم هذا المصطلح فإن الفقهاء قديما والباحثين حديثا جعلوه لا ينفصل عن مفهوم السياسة الشرعية.

       إذن يمكن تعريف الفكر السياسي الإسلامي بأنه جملة النشاط الذهني الذي أنتجته النخبة في العصر الإسلامي منذ نزول الوحي لتقويم السلطة وتوجيهها وفقا لما ورد في الشرع، واستنادا للأحداث والممارسات والآراء التي عرفتها الدولة الإسلامية عبر تاريخها.

3/- ماهية الدولة في التشريع الإسلامي:

     عرفت التنظيمات السياسية لدى شعوب العالم منذ القديم واتخذت أشكالا متعددة انعكست عليها ثقافات وأفكار وممارسات وتأثيرات عديدة وبرزت حسب، وكذا الأمر بالنسبة للحضارة الإسلامية التي عرفت فيها أنماط متعددة للحكم، اتخذ مصطلحات وممارسات متعددة، فهل تمكنت ونجحت الشعوب الإسلامية في تأسيس كيان: "الدولة" كما هو معروف في العصور الحالية.

أ/- مفهوم الدولة:

    قبل البحث في وجود هذا المصطلح في الفكر الإسلامي عموما لابد من تعريف المصطلح ومختلف المفاهيم المرتبطة به.

لغة:

جاء في لسان العرب[21] لابن منظور:

"الدَّوْلةُ والدُّولَة العُقْبة في المال والحرب"

"الدولة اسم للشيء الذي يتداول به بعينه"

"إنما الدولة للجيشين يهزم هذا هدا ثم يهزم الهازم، فنقول رجعت الدولة على هؤلاء كأنها المرة"

"والدُولة برفع الدال في المِلْك والسٌّنن التي تعير وتبدل عن الدهر"

"الدولة اسم الشيء الذي يتداول، والدولة الفعل والانتقال من حال إلى حال"

"الدَّوْلة والدُّولة لغتان، ومنه الإدالة الغلبة...والدولة الانتقال من حال الشدة إلى الرخاء"

"ودالت الأيام أي دارت، والله يداولها بين الناس"

أما الفيروز آبادي[22] فقد قال:

"الدَّوْلَة: انقلاب الزمان والعقبة في المال"

"وتداولوه أخذوه بالدول"

"ودواليك أي: مداولة على الأمر، أو تداولا بعد تداول"

"وأدالنا الله تعالى من عدونا: من الدولة، والإدالة الغلبة"

"ودالت الأيام دارت، والله تعالى يداولها بين الناس"

لم يفد هذا المعنى الدولة من الجهة التنظيمية السياسية بالضبط، لكنه التصق بهيكلين أساسيين هما التعاقب في: النظام المالي أو العسكري.

في القرآن الكريم:

    لم يرد مصطلح الدولة كلفظ سياسي في القرآن  إلا مرة واحدة وكان ذلك في آية الفيء في قوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فلِلّهِ وَلِلرَّسُوِل وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالـمَسَاكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغنيَاءِ مِنْكُم...﴾ الحشر/الآية7 للدلالة على الهيمنة الاقتصادية لفئة الجند على باقي فئات المجتمع، وكما أنه لم يتم توظيف لفظ "الدولة" من قبل فقهاء السياسة إلا بعد انقسام الأمة الإسلامية إلى وحدات سياسية أو شبه سياسية، حيث دأب المتقدمون منهم على استخدام لفظ الإمامة والخلافة للإشارة إلى السلطة السياسية[23].

فقد أسست آية الفيء المذكورة أعلاه حكما مغايرا لأحكام الغنيمة المتبعة قبل نزولها، ذلك أن تقسيم الغنيمة المتبعة كان يعتمد على تخميسها بحيث يذهب الخمس إلى بيت المال لينفق في مصارفه بينما توزع أربع الأخماس المتبقية على المقاتلين، بينما آية الفيء قضت بتخصيص كامل الغنيمة التي حصل عليها المسلمون دون قتال لبيت المال معللة هذا الحكم بالإرادة الإلهية في عدم تركيز القوة في يد الجنود، وجعلها بالتالي متداولة أو دُولة بين كافة أفراد الأمة[24].

     إن لم يرد مصطلح الدولة بشكل متكرر في ألفاظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة إلا أن التشريع الإسلامي اتَّصَفَ بالشمول، وشمل نصوصا تتعلق بالعقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق لتنظيم علاقات الناس فيما ، سواءً أكانوا أفرادا أم جماعات[25]؛ ومادامت الشريعة بهذا الشمول فإنها تضمنت ما يرتبط بالدولة من قواعد ومبادئ كنظام الحكم ومبدأ الشورى ومسؤوليات الحاكم والعدل ونبذ الظلم وأحكام الحرب والسلم والمعاهدات وغيرها، وفي السنة أيضا تتكرر ألفاظ الأمير والسلطان والإمام التي توجب الطاعة وتنفيذ الأحكام على الجماعة، مما يجعل إقامة الدولة أمرا واجبا حسب أصول الشرع[26].

     من خلال المقارنة بين النص اللغوي والقرآني نجد أن الدولة تعني التعاقب على المسائل المالية، وقد جاءت في سياق تنظيم المورد الساري لها في ذلك الوقت وهو الغنائم.

     "وقد نادى القرآن المسلمين دائما باسمهم كأمة، أي كشعب قائم بنفسه ودينه وعقيدته وليس بالدولة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ آل عمران/110 وجعل وسيلتهم لتحقيق أمر الله الجهاد، الأكبر والأصغر باعتباره عملا مستمرا"[27].

 كما وردت مصطلحات أخرى في القرآن الكريم لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالدولة مثل الاستخلاف، جاء ما يعبر على أنه جعل له خلفاء في الأرض ليحكموا بين الناس وينظموا أمورهم، ويقيموا العدل بين الناس وذلك لما وهب لداوود من الملك، حيث قال الله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[سورة ص:26]، كما وردت ألفاظ ومفردات تدل وتحث على ضرورة استخلاف المسلمين ووراثتهم للأرض[28]مثل: الإظهار[29]، الوعد[30]، التمكين[31]، التوريث[32].

اصطلاحا:

     لتأصيل المصطلح الشرعي ومدى استخدامه وتداوله في الفكر الإسلامي عموما للعصر الوسيط، الفكري النظري منه أو التاريخي الزمني، عرجت على مجموعة من النصوص رتبتها ترتيبا كرونولوجيا للوقوف على المفاهيم والمعاني المرتبطة بالدولة، ومدى تطور الاستخدام اللفظي والعملي لهذا المصطلح:

ابن أبي الربيع[33] ( 3ه/9م)

 في كتابه "سلوك المالك في تدبير الممالك": استخدم مصطلح المملكة بدل الدولة واستهل كلامه بفضائل الملك، وضرورة وجوده حتى تقوم الرئاسة على الناس وتتم مصالحهم وصنائعهم، ويزيد تعاضدهم، والمهم في الأمر أنه لم يعرف لنا الدولة على أنها الخلافة أو الإمامة، ولم يحدد لها مفهوما واضحا وإنما حدد أربعة أركان تقوم عليها[34]:

• الملك
• الرعية
• العدل
• التدبير

من خلال التدقيق في ما شرحه ابن أبي الربيع نلمس دقة وعمقا في الفهم السياسي ومعرفة بأصول الحكم وضرورياته الشرعية والمدنية، وهو ما يتوافق مع الأركان التي حددها المفكرون المعاصرون، حول تعريف الدولة وهو ما سيتم توضيحه ضمن هذا العنصر.

الفارابي (ت 339ه/950م)

يحدد الفارابي هرما تراتبيا لتأسيس الأمة أو المدينة ، ويعدها مترابطة منسجمة وقد عبر عنها: "والجملة التي تحصل من اجتماع المدنيين في المدن، شبيه باجتماع الأجسام في جملة العالم، ويتبين له في جملة ما تشتمل عليه المدينة والأمة نظائر ما تشتمل عليه جملة العالم، وكما أن في العالم مبدأ ما أولا  ثم مبادئ أخرى على ترتيب...كذلك في جملة ما تشتمل عليه الأمة أو المدينة مبدأ ما، ثم مبادئ أخر تتلوه، ومدنيون آخرون يتلون تلك المبادئ، وآخرون يتلون هؤلاء إلى أن ينتهي إلى آخر المدنيين رتبة في المدينة والإنسانية"[35].

    ويذهب الفارابي إلى أن الأمة الفاضلة هي التي تجتمع فيها مجموع مدن فاضلة، يكون التعاون فيها لبلوغ الغايات، وكما أن في البدن عضو رئيس وهو القلب، فالمدينة تحتاج إلى إنسان هو رئيسها، وأخر يقرب مراتبها من الرئيس، وهم أولو المراتب الأول، ثم يأتي بعدهم قوم يفعلون ما دونهم من الأغراض وهكذا حتى نصل إلى فئة من يخدِمُون ولا يُخْدَمون ويكونون في أدنى المراتب وهؤلاء هم الأسفلين[36].

     ذهب الفارابي إلى أن الرئيس لا بد أن يكون نبيا أو فيلسوفا حتى تتحقق معاني الحكم المثالي في المدينة، وأنه لا بد من وجود تعاون وتناشق بين أفراد المدينة الفاضلة حتى تتحقق بها السعادة والمنشودة من الاجتماع الإنساني[37]، هنا نتوقف على نقطة أساسية هي أنه لم يختزل عنصر الدول في الرئيس أو الحاكم وإنما في المدينة بجميع عناصرها وسلطاتها وأفرادها.

      رغم أهمية ما ورد لدى الفارابي باعتباره من مفكري الحضارة الإسلامية خلال القرن 4ه/10م إلا أن آراءه الفلسفية والمنطقية اتسمت بالمثالية، دون الواقعية التي عاشها العالم الإسلامي آنذاك، ولم يستنبط لنا مفاهيم تتعلق بالدولة ومفهومها وبنيتها اعتمادا على نظام الحكم القائم وهو ما يجعلنا نصفه ضمن الفكر الفلسفي السياسي النظري.

الماوردي (ت 450ه/1058م)

لم يستخدم الماوردي لفظ الدولة لكنه عبر عنها بالإمامة فقال: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمّة واجب بالإجماع" مبينا أهمية ووجوب تنصيب حاكم للأمة عن طريق اهل الحل والعقد أو عن بعهد الإمام من قبل[38].

الجويني (ت 478ه/1085م)

        م يختلف الجويني عن الماوردي في إعطائنا تصورا عن الدولة وإنما اكتفى بالإمامة وعلاقتها بالقيام بمصالح الرعية: "الإمامة: رياسة تامة وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، متضمنا حفظ الحوزة ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بحجة السيف، وكف الحنف (الميل والانحراف) والحيف (الظلم والجور)، والانتصاف للظالمين من المظلومين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين"[39].

      إن فقهاء السياسة المتقدمين استعملوا لفظ الإمامة والخلافة للإشارة إلى السلطة السياسية، وتكاد كتاباتهم تخلو من مصطلح الدولة وبالتالي فإن الاعتراض الذي قد يثار في هذا الصدد إلى استخدام هذا المصطلح يؤدي إلى تفاوت في المصطلحات المستخدمة في التنظير الإسلامي عند القدماء والمحدثين، وربما أدى إلى خلافات تصورية ومفهومية. ثانيا قد يتحفظ البعض على استخدام "دولة" بدل "إمامة " أو "خلافة " نظرا لأن مصطلح الدولة برز إلى حيز الاستخدام عقب انقسام الأمة إلى وحدات سياسية مستقلة أو شبه مستقلة، نتيجة لضعف سلطة الخلافة المركزية للنظام السياسي الإسلامي[40].

أبو حامد الغزالي (505ه/1111م)

انطلق الغزالي[41] من عدة مقدمات ليصل إلى نتيجة هامة مفادها أن: الإمام والدين توأمان، وأن أمور الدين لا ينتظم إلا بإمام مطاع يقوم على أمر الدنيا من أمن على النفس والأموال؛ وقد خلص في الخير قائلا: "فبان أن "السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصود الأنبياء قطعا؛ فكان وجوب نصب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه"[42]

      فيكون بذلك ربط بين عنصرين أساسين في قيام الدولة وهما: الحاكم والقانون الذي تقوم عليه الدولة في الحفاظ على حقوق الخلق وحقوق الرعية عموما.

      وقد أضاف في موضع آخر: "أن معنى خلافة الله على الخلق إصلاح الخلق، ولن يقدر على إصلاح أهل الدنيا، من لا يقدر على إصلاح أهل بلد، ومن لا يقدر على إصلاح أهل البلد لا يقدر على إصلاح أهل منزله، ومن لا يقدر على إصلاح أهل منزله لا يقدر على إصلاح نفسه، ومن لا يقدر على إصلاح نفسه فينبغي أن تقع البداية بإصلاح القلب والنفس"[43] وهو بذلك يربط الخلافة بالإصلاح، ويعتبر الوظائف التابعة لها كجسم الإنسان يحتاج فيه الحاكم لكل منها للقيام بمهمته في حفظ مصالح الناس الدنيا وتحقيق سعادتهم بالفوز بالآخرة.

ابن تيمية (ت 728ه/1330م):

"إن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك وبه أنزل الكتب وبه أرسل الرسل وعليه جاهد الرسول والمؤمنون"[44]ويربط ذلك بالحكمة من الاجتماع الإنساني وهي التعاون والتناصر لجلب المنافع ودفع المضار ويكون ذلك عن طريق الآمر بذلك المحقق لهذه المقاصد، ويجعل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقصد للولايات والوظائف السلطانية سواءً: الشرطة، الحكم، المال، الدواوين والحسبة[45].

ابن القيم الجوزية (ت 751ه/ 1350م)

لا نجد ابن القيم يذكر مصطلح الدولة أو ما يناظره لنتمكن من استخراج مفهوم واضح متأصل ومستند للفكر الإسلامي حول هذا الكائن السياسي، غير أنه يربط السياسة دائما بالعدل، ويلقي المسؤولية على الحاكم في التحري والاعتماد على القرائن المنطقية لا الظنية في الحكم بين الخلائق، مركزا على ضرورة تطبيق الحدود لتحقيق ذلك[46].

نلاحظ أن التعريف الذي قدمه كل من ابن تيمية وابن القيم الجوزية لا يحددا مفهوما واضحا ولم يضعا عناصر محددة تقوم عليها الدولة وإنما جعلا الولايات ومختلف السلطات تعبر عن خلافة الله في الأرض وإقامة الحدود بشكل عام، واعتمدوا على مسألة سياسة الدنيا بالدين على غرار الماوردي والجويني.

      تقوم سياسة الدولة بالدين على إدارة شؤون الدولة والرعية على وجه يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة وهذا يتم إذا كانت إدارة شؤون الحياة وفقا لقواعد الشريعة ومبادئها، وأحكامها المنصوص عليها أو المستنبطة منها وفقا لقواعد الشريعة ومبادئها، وأحكامها المنصوص عليها أو المستنبطة منها وفقا لقواعد الاجتهاد السليم، فهذه هي السياسة الشرعية لأمور الدنيا بالدين، ويدخل في السياسة الشرعية لأمور الدنيا إقامة العدل ومنع الظلم في كل جزيئة في الحياة، وهو جزء من محل الالتزام في عقد البيعة، إذ قال الفقهاء في صفة عقد البيعة للإمام أن يقال له: بايعناك بيعة رضا على إقامة العدل والإنصاف[47].

      إن دولة المسلمين -خلال هذه الفترة بالضبط – بما تشمل الدولة من مبادئ التنظيم المدني وطرائقه ووسائله، وتكوين السلطة (الطاعة)وتنظيمها وتوجيهها، أي الدولة كإطار للانتنظام والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي العام، لم تكن شيئا آخر في الإسلام إلا الدين نفسه[48].

ابن خلدون (808ه/1406م)

      استعمل ابن خلدون[49] مصطلح الدولة للدلالة على التنظيم السياسي الذي يشمل الملك والرعية والإقليم، وقليلا ما كان يستعمل مصطلح الخلافة للدلالة على الحكم والسلطة،، إنما اعتبر الملك يفوق مصطلح الرياسة الذي ينطبق على القبائل والعشائر في حين يعني القوة والتغلب والهيبة[50]، واعتمد على نظرية العصبية[51] كأساس لقيام الدولة وضمان بقائها ما بقيت هذه العصبية متلاحمة ومتناصرة، وقد أخذ مفهوم الغلبة –بالإضافة إلى الجانب العسكري – مفهوما جغرافيا من خلال المساحة التي يتسع عليها الملك[52].

مفهوم الدولة لم ينضبط انضباطا دقيقا حتى منتصف القرن الثامن الهجري عندما استطاع عبد الرحمن بن خلدون أن يطور مفهوم الدولة من خلال دراسة القاعدة الاجتماعية التي ترتكز عليها السلطة في المجتمعات المعاصرة له والمتقدمة عليه. ويعود الفضل في اكتشاف الأساس الاجتماعي للسلطة إلى المنهج التحليلي الذي وظفه ابن خلدون في دراسته، الهادف إلى تحديد الأنساق العامة للفعل الاجتماعي والسياسي انطلاقا من المعطيات التاريخية المتوفرة؛ وخلص ابن خلدون بعد دراسته التجارب السياسية التاريخية إلى أن ظهور الدولة وتلاشيها متوقف على بروز واختفاء عصبية منظمة متضامنة فيما بينها وفق رابطة أطلق عليها ابن خلدون اسم العصبية وأرجعها إلى وحدة الأصل والنسب.[53]

بيد أن تخصيص ابن خلدون للأساس الذي يقوم عليه تضامن الجماعة السياسية بالنسب لا يغير شيئا من فحوى القاعدة العامة التي تتفتق عنها أطروحته الرئيسية، والتي تقول بأن الدولة تتحدد في البنية السلطوية التي تؤسسها جماعة سياسية منظمة في مجتمع يتألف من العديد من الجماعات السكانية. إن المفهوم الذي تقدم به ابن خلدون للدولة هو في تقديرنا المدخل الصحيح لتعريف الدولة الإسلامية[54].

مع أنه لا مشكلة في استخدام المصطلحات إذا اتحدت المفاهيم، ومع أن المتداول في النظام السياسي الإسلامي المتقدم هما مصطلحا: الخلافة والإمامة، إلا أن المفضل استخدام مصطلح الدولة لثلاثة أسباب: الأول أنهما مصطلحين اكتسبا بعض المعاني التي تفرض على الباحث التعمق في تحليلات تنبثق أساسا من الخصوصيات التاريخية للمؤسسات المذكورة، والثاني: لفظ الدولة يرتبط بالواقع السياسي والاجتماعي الذي يشكل الأرضية التاريخية التي تحكم تطبيق المبادئ الكلية والأطر العامة للحياة السياسية، في حين لفظي الخلافة والإمامة يتجاهلان العلاقة الجدلية بين الواقع والمثال، أو بين المبدأ العام وتطبيقاته التاريخية، الثالث والأهم: أن مصطلحي الخلافة والإمامة يتعلقان بمؤسسة واحدة من مؤسسات الدول الإسلامية وهي مؤسسة الرئاسة؛ لذلك فإن استخدام لفظ الخلافة للدلالة على الجهاز السلطوي يؤدي إلى إشكاليات في التصور والمفهوم[55].

      ومن منظور آخر هناك من رفض استعمال

        للدلالة على الأقاليم التي تتربع عليها الدولة أو الخلافة -بمفهوم العصور الأولى- استخدم علماء المسلمين الأوائل مصطلح دار الإسلام أو الأمصار وبذلك نضيف للتصور الذي كان قائما على العلاقة بين الحاكم والرعية ركيزة مكملة هي المساحة الجغرافية[56] التي تساهم في اكتمال الفكرة الرئيسية عن الدولة بتوفر أركانها الثلاثة؛ وقد عرف أبو منصور البغدادي بقوله: كل دار ظهرت فيها دعوة الإسلام من أهله بلا خفير ولا مجير ولا بذل جزية، ونفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن كان فيهم ذمي ولم يقهر أهل البدعة فيها أهل السنة...وإذا كان الأمر على ضد ما ذكرناه في الدار فهي دار الكفر "[57]، وقد اتفق علماء المسلمين عموما على أن الحرية في ممارسة الشعائر الدينية هي الأساس في التمييز بين دار الإسلام ودار الكفر[58].

       من خلال ما تقدم يتضح لنا أن الغموض الذي كان قائما حول التعريف الشامل والمتكامل للدولة في الفقه السياسي الإسلامي نابع من تطور الحكم بين الخلافة الراشدة ووراثة العرش في العصور الموالية ثم الانقسامات التي عرفتها أطراف الدولة العباسي خاصة، لكن بقراءة المفاهيم المختلفة وتتبعها زمنيا نجد أن أركان قيام الدولة موجودة في الواقع الزمني والتاريخي، أما في الفكر السياسي النظري فنجدها مشتتة أحيانا بين المؤلفات أو ضمن المؤلف الواحد في فصول مختلفة، لكن يبقى الحاكم والقانون أو الشريعة المتبعة والإقليم والرعية والقوة العسكرية والاستقلال المالي عناصر لازمة في الدول الإسلامية التي قامت آنذاك.

مفاهيم معاصرة للدولة في الإسلام:

- التعريف العام للدولة: "جماعة من الناس تقيم على وجه الدوام في إقليم معين، وتقيم فيهم سلطة حاكمة، تتولى تنظيم شؤونهم، وتدبير أمرهم في الداخل والخارج"[59]

- مجموعة الإيالات (السياسات) تجتمع لتحقيق السيادة على أقاليم معينة لها حدودها ومستوطنوها، فيكون الحاكم أو الخليفة أو أمير المؤمنين على رأس هذه السلطات، وهذا هو المقصود باستعمال مصطلح دولة عند من استعمله من فقهاء السياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية...أن الدولة تقوم على ثلاثة أركان: الدار الرعية والمنعة...فالدار المسلمة هي البلاد الإسلامية وما تشمله من أقاليم داخلة تحت حكم المسلمين، والرعية هم المقيمون في حدود الدولة من المسلمين وأهل الذمة، والمنعة: السيادة، وهي ظهور حكم الإسلام ونفاذه"[60]

"تعريف الدولة الإسلامية بأنها البنية السلطوية للأمة التي توجه الفعل السياسي وتحدده وفق منظومة المبادئ الإسلامية"[61]

للدولة عدة تعاريف عند المفكرين الغربيين نذكر منها[62]:

يعرفها رجل القانون الفرنسي كاريه دي ملبر بأنها مجموعة من الأفراد مستقرة على إقليم معين، ولها من التنظيم ما يجعل للجماعة سلطة في مواجهة الأفراد سلطة عليا آمرة قاهرة.

يعرفها و.ولسن بأنها شعب منظم، خاضع للقانون، يقطن أرضا معينة.

يعرفها بونار بقوله: "وحدة قانونية دائمة، تتضمن وجود هيئة اجتماعية لها حق ممارسة سلطات قانونية معينة، في مواجهة أمة مستقرة، على إقليم محدد، وتباشر حقوق السيادة بإرادتها المنفردة، عن طريق استخدام القوة المادية التي تحتكرها"

    إذن إذا كانت عناصر الدولة تقوم على: 1/ جماعة من الناس 2/ ونظام معين 3/ وتتسع على إقليم جغرافي معين 4/ ذات سلطان ولها شخصية معينة، فإن دولة الإسلام الأولى توافرت فيها عناصر: الجماعة (المهاجرون + الأنصار) والنظام (الشريعة الإسلامية) والإقليم الذي سكنته تلك الجماعة وهو المدينة، والسلطان تمثل في شخصية النبي بصفته رئيسا لتلك الدولة، والشخصية المعنوية تجسدت في المعاهدات التي كان يعقدها الرسول والتي تلتزم بها الدولة بأجمعها لا شخص الرسول فقط[63].

ب/- حكم إقامة الدولة في الإسلام:

اختلف الفقهاء والعلماء في أحكام قيام الدولة وتنصيب حاكم على الإقليم على قولين تأرجحا بين الوجوب وبين الجواز:

الحكم الأول: وجوب قيام الدولة وتنصيب حاكم لها

ذهب جمهور الفقهاء ومن يعتد بهم إلى وجوب إقامة الدولة، وأن الإمامة أمر واجب أو فرض محتم، وهو أمر شرعي ملزم، يوجبه العقل، ويحتمه الواقع، وهو قول أهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة إلا نفر منهم، والخوارج ما عدا النجدات[64]، نعرض بعض النصوص التي تعبر عن آراء الفقهاء:      

قال ابن حزم: اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يُقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله[65].

الماوردي (ت 450ه/1058م):ذهب إلى أن عقدها واجب بالإجماع، وفرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو أهلها سقط فرضها عن الكافة[66].

الشهرستاني (ت548ه/1153م): "وقد قال جمهور أصحاب الحديث من الأشعرية والفقهاء وجماعة الشيعة، والمعتزلة وأكثر الخوارج بوجوبها فرضا من الله تعالى، ثم جماعة أهل السنة قالوا هو فرض واجب على المسلمين إقامته واتباع المنصوب فرض واجب عليهم"[67]

الجويني(ت 478ه/1085م): "فنصب الإمام عند الإمكان واجب...وهو مسبوق بإجماع من أشرقت عليه الشمس شارقة وغاربة، واتفاق مذاهب العلماء قاطبة"[68].

النسفي (537ه/1142م): "والمسلمون لابد لهم من إمام يقوم: بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم، وأخذ صدقاتهم وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطرق وإقامة الجمع والأعياد وقطع المنازعات الواقعة بين العباد وقبول الشهادات القائمة على الحقوق وتزويج الصغار والصغائر الذين لا أولياء لهم"[69]

ابن تيمية(ت 728ه/1330م):يقول أن ولاية الأمر من أعظم واجبات الدين بل لا قام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس[70]. 

رغم اتفاق الفقهاء في هذا الباب على وجوبها لكن اختلفوا بين ردها إلى المنقول أو المعقول[71]، فذهب الجويني أن الإمامة " مستفاد من الشرع المنقول، غير متلقى من قضايا العقول"[72]، واتبع الغزالي المذهب نفسهفوجوب ذلك بالشرع لا بالعقل فلا يحصل نظام الدين إلا بإمام مطاع، فقال الدين والسلطان توأمان[73].

ولذلك جمعت كل الأدلة وقمت بتصنيفها كالآتي:

الأدلة النقلية:

القرآن الكريم: وردت آيات في مواضع متعددة من القرآن تدعو بشكل مباشر أو غير مباشر بضرورة وجود حاكم يتولى أمور الخلق ويسوس مصالحهم ويدبرها، نذكر منها:

﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]

﴿وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: 49]

﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ  إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[الأنعام: 165]

﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[النور: 48]

﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ  فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].

﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ  وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران: 110]، ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ  وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[المائدة: 78-79]﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ  يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ  أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ  إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 112]

ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل ولإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ والتجربة تبين ذلك[74].

السنة النبوبة:

ورد في السنة النبوية ما يفرض علينا طاعة أولي الأمر فينا وهم الأئمة المتآمرون علينا، وروى هشام ابن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: " سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلَاةٌ ، فَيَلِيَكُمُ الْبَرُّ بِبِرِّهِ، وَالْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَصَلَّوْا وَرَاءَهُمْ ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ»[75].

عن أبي أُمامة الباهلي، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «ليَنْتَقِضَنَّ عُرَى  الْإِسْلَامِ  عُرْوَةٌ عُرْوَةٌ، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا ، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ»[76]، والمقصود بالحكم، الحكم على المنهج الإسلامي، ويدخل فيه بالضرورة وجود الخليفة الذي يقوم بهذا الحكم، ونقضه يعني التخلي عنه وعدم الالتزام به وقد قرن بنقض الصلاة وهي واجبة، فدل على وجوبه ومارس النبي عليه السلام سلطات سياسية لا تصدر من غير قائد دولة، كإقامة الحدود وعقد المعاهدات وتعبئة الجيوش وتعيين الولاة وفصل الخصومات بين الناس في الشؤون المالية والجنائية ونحوها[77]، كما أن ورود الأحاديث الدالة على وجوب طاعة الحكام فيما لا معصية فيه، وأحاديث البيعة، والأمر بالوفاء بها للأول فالأول، وحرمة الخرج على أئمة المسلمين، والحث على ضرب عنق من جاء ينازع الإمام الحق، فكل هذه الأحاديث تقتضي وجود الإمام المسلم، فدل ذلك على وجوب تنصيبه[78].

ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فِي سَفَرٍ فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدَكُمْ ، وَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا»[79]، وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، أن النبي قال: «وَلَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ»[80]، فأوجب تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع[81]. 

الإجماع:

أجمع الصحابة والتابعون على وجوب الإمامة، وهذا مذهبهم قولا وعملا ومستند أهل السنة وجمهور الفقهاء[82]، ولم يخرج عن هذا القول إلا القليل منهم، لفقد اتفقت الأمة بأسرهما من الصدر الأول إلى زماننا أن الأرض لا يجب أن تخلو عن إمام قائم بالأمر

وقد ثبت عندهم الإجماع ب:

• أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا البدار إلى نصب الإمام حقا، وتركوا بسبب التشاغل به تجهيز رسول الله ودفنه مخافة تتغشاهم هاجمة محنة[83].
• بادر الصحابة فور وفاة النبي وقبل تجهيزه وتشييعه إلى عقد اجتماع السقيفة في بني ساعدة، وبعد تشاور كبار المهاجرين والأنصار بايعوا أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) قياسا على تقديم الرسول له لإمامة الناس في الصلاة أثناء مرضه الشريف، وأقر المسلمون هذه البيعة في المسجد في اليوم التالي، مما ينبئ أنهم مجمعون فعلى ضرورة وجود إمام أو خليفة[84].
• تواتر اجتماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي على امتناع خلو الوّقت عن إمام حتى قال أبو بكر (رضي الله عنه) في خطبته ألا إن محمدا قد مات ولا بد لهذا الدين ممَّن يقوم به فبادر الكل إلى قبوله وتركوا له أهم الأشياء وهو دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام مُتَبع في كل عصر[85].

والإجماع حجة قطعية يقينية على وجوب الإمامة بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفي كل عصر، إذ لا يصلح الناس فوضى لا قادة لهم ولا رؤساء في كل زمان[86].    

المعقول:

على الرغم من أن أغلب العلماء رد وجوب الإمامة إلى النقل، إلا أنهم استدلوا بما هو متوافق مع العقل، معتبرين سياسة الدنيا وتدبيرها لا يقوم إلا بسياسة الدين واتباع الشرع؛ فبناء المجتمع الإسلامي على الأسس الشرعية لا يمكن أن يتم بالوعظ والإرشاد، وإنما بقيام الدولة التي تصوغ المجتمع الصياغة المطلوبة وتشرف وتسهر على سلامته وتمنع من يريد تخريبه وإفساده بما لها من سلطان وقوة[87] في تطبيق القوانين ودفع التظالم والتعدي وفرض التناصف وحفظ الحقوق[88].

      وقد فصل المفكرون والعلماء المسلمون في ذلك من أوجه متعددة نذكر منها:

أولوية الأئمة على الأنبياء: يذهب الجويني أن الأديان والملل أحوج إلى الأنبياء المؤيدين بالشرائع، لكن يمكن أن يخلو زمان من نبي ولا يرجى أن يخلو من إمام، ولو رددنا إلى العقول لهلك الخلائق بلا سلطان يحكمهم وينظم أمورهم[89].

الأمن: يذهب الغزالي إلى أن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بإمام مطاع،وتحقيق الاستقرار قد يزعزع عند وفاة السلاطين، فتبطل الكثير من المصالح، ولو تعطل تنصيب إمام آخر ثارت الفتن وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات، وعم السيف بين الخلائق[90].

قال النسفي: "والمسلمون لابد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسد ثغورهم، وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصغار والصغيرات الذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم، أي ونحو ذلك من امور المتطلبة لوجود الحاكم"[91].

إذ لابد لكافتهم من إمام ينفذ أحكامهم ويقيم حدودهم ويحفظ بيضتهم ويحرس حوزتهم ويعبئ جيوشهم، ويقسم غنائمهم وصدقاتهم، ويتحاكمون إليه في خصوماتهم ومناكحاتهم، ويراعي فيهم أمور الجمع والأعياد، وينصف المظلوم وينتصف من الظالم، وينصب الولاة والقضاة في كل ناحية ويبعث القراء والدعاة في كل طرف"[92]

وقال الإيجي في المواقف: "إن في نصب الإمام دفع ضرر مظنون، وإن دفع هذا الضرر واجب شرعًا. بيانه أننا نعلم علمًا يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات، والمناكحات، والجهاد، والحدود والمقاصات، وإظهار شعائر الشرع في الأعياد والجماعات، إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشًا ومعادًا، وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما تعين لهم...فإنهم -مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء، وما بينهم من الشحناء- قلما ينقاد بعضهم لبعض فيفضي ذلك إلى التنازع والتواثب، وربما أدى إلى هلاكهم جميعا، ويشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر بحيث لو تمادى لعطلت المعايش"[93].

وأضاف الطرطوشي[94]: "اعلموا أرشدكم الله أن في وجود السلطان في الأرض حكمة لله تعالى عظيمة...لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلائق على حب الانتصاف وعدم الإنصاف، ومثلهم بلا سلطان كمثل الحوت في البحر يزدرد الكبير الصغير...ولهذا قال بعض القدماء: لو رفع السلطان من الأرض ما كان لله في أهل الأرض من حاجة. ومن الحكم التي في إقامة السلطان: إنه من حجج الله تعالى على وجوده.. ومثال السلطان القاهر لرعيته ورعية بلا سلطان مثال بيت فيه سراج منير، وحوله قيام من الناس يعالجون صنائعهم، فبينما هم كذلك إذ طفئ السراج فقبضوا أيديهم في الوقت وتعطل جميع ما كانوا فيه، فتحرك الحيوان الشرير وتخشخش الهوام الخسيس، فذبت العقرب من مكمنها وفسقت الفأرة من حجرها وخرجت الحية من معدنها، وجاء اللص بحيلته وهاج البرغوث مع حقارته، فتعطلت المنافع واستطالت فيهم المضار. كذلك السلطان إذا كان قاهراً لرعيته وكانت المنفعة به عامة، وكانت الدماء به في أهبها محقونة والحرم في خدورهن مصونة، والأسواق عامرة والأموال محروسة، والحيوان الفاضل ظاهر والمرافق حاصلة، والحيوان الشرير من أهل الفسوق والدعارة خامل، فإذا اختل أمر السلطان دخل الفساد على الجميع، ولو جعل ظلم السلطان حولاً في كفة كان هرج الناس ساعة أرجح وأعظم من ظلم السلطان حولاً، وكيف"

ويقول عبد القادر عودة: لا بُدَّ - وفي كل الأحوال- للأمّة أن تختار من تنيطه في تطبيق أحكام وحدود شرع الله في الأرض بين الناس، وإمضاء أحكامه، بل أن إقامة الإمام أو الخليفة واجب وجوب الشريعة ذاته، تطبيقا للمبدأ القائل: ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب[95].

وضع الله سننا وفرائض يرجعون إليها ويقفون عندها، ونصَّب لهم حكاما يحفظون السنن، ويأخذونهم باستعمالها، ليلتئم شمل الناس ويمنعهم من التعدي والتظالم[96].

قال الزحيلي: لتحقيق قيام الإنسان بوظيفته بكونه خليفة الدنيا في الأرض وحامل الأمانة: (الفروض والتكاليف الدينية) يتوقف على وجود السلطة السياسية التي تمكنه من أداء وظيفته على نحو أكمل[97]؛ والناس مضطرون لسياسة وتدبير وأمر ونهي، ليحفظوا أنفسهم من شرور ومخالفات قد تقع من[98]:

• من الحاكم نفسه: فيدفع ذلك بالخلال والخصال الحميدة، وضبط النفس واستعمال العقل.
• من أهل المدينة: فيدفع ذلك بالسنن والقوانين والشرائع وإصلاح الكافة.
• من أهل المدن الخرى: فيدفع ذلك بالحماية والدفاع ببناء الأسوار والخنادق والحراس، واستعمال القوة في حال التعدي.
• "ولو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع، ولا يردعهم عن إتباع خطوات الشيطان رادع، مع تفنن الآراء، وتفرق الأهواء، لتبتر النظام وتفرق الآنام، وتوثب الطغام (أوغاد الناس) والعوام، وتخربت الآراء المتناقضة، وتفرقت الإرادات المتعارضة"[99].

وهذه الواجبات لا تتحقق إلا في ظل وجود دولة، سواء أكانت عبادات محضة كالصلوات والحج والعمرة أم شعائر عامة كالأذان والجمعة والأعياد، أم معاملات اجتماعية كالعقود بأنواعها، أم تكاليف جماعية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة المجتمع الفاضل والتعاون في سبيل الخير، وقمع الشر، ومحاربة الأهواء، وجدير بالذكر أن كل رسالة إصلاحية وعلى رأسها الإسلام لا يمكن أن يقر قرارها أو تظهر فائدتها إلا في سياج منيع من القوة المانعة والسطوة الرادعة التي تلازم وجود الدولة[100].

إن الأدلة الشرعية والعقلية تدعو في جملتها إلى ضرورة تنصيب من هو أهل للحكم، لتمكين الأمة من تسيير شؤونها وتنظيمها ودفعها لتحقيق مكانتها بين الأمم، وتمكين الأمة الإسلامية

الحكم الثاني: جواز قيام الدولة وتنصيب حاكم لها

ذهب عبد الرحمن بن كيسان –أبو بكر الأصم- إلى أنه لا يجب ويجوز ترك الناس أخيافا يلتطمون ائتلافا واختلافا، لا يجمعهم ضابط ولا يربط شتات رأيهم رابط[101]،وخالفهم شرذمة من القدرية كأبي بكر الأصم وهشام القوطي فغن الاصم زعم أن الناس لو كُفّوا عن التظالم [الظالم] لاستغنوا عن الإمام، وزعم هشام أن الأمة إذا اجتمعت كلمتها على الحق احتاجت حينئذ إلى الإمام وأما إذا عصت وفجرت وقتلت الإمام لم يجب حينئذ على أهل الحق منهم إقامة إمام[102].

وأما قول الأصم أن الأمة إذا تناصفت استغنت عن الإمام فإنهم مع التناصف لا بد لهم من قائم بحفظ أموال اليتامى والمجانيين وتوجيه السرايا إلى حرب الأعداء والذبِّ عن البيضة ونحوها من الأحكام التي يتولَّاها الإمام أو منصوب من قبله[103].

القول الثاني: جواز الإمامة وقيام الدولة:

وذهبت إليه فئة قليلة، وهم المحكِّمة الأولى والنجدات من الخوارج، وضرار، وأبو بكر الأصم المعتزلي، وهشام الفُوّطي، وعباد بن سليمان تلميذه من المعتزلة قال الأصم ممثلا هذا الرأي: لو تكافّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام، وقال الشهرستاني مبينًا رأي هؤلاء: إن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوبًا لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب، بل هي مبنية على معاملات الناس، فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام ومتابعته^([104]).

وأما قول الفوطي بسقوط الإمامة عند الفتنة فضيره في هذا القول إبطال إمامة على رضي الله عنه لأنها عقدت له في حال قتل عثمان ووقوع الفتنة فيه، وعليُّ هو الإمام حقًّا على رغم الفوطي وأتباعه[105].

أدلتهم:

استدل هؤلاء المجوزون بأدلة جانبية فحواها تعداد أضرار الحكومات فقالوا: إن وجود الحكومة يتنافى مع مبدأ الحرية الطبيعية وحق الاجتهاد بالرأي، ومبدأ المساواة، بسبب ضرورة توفير الطاعة للحاكم ليس معصوما من الخطأ، والشروط المطلوبة فيه قلما توجد في كل زمان.

"لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب، بل هي مبنية على معاملات الناس، فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام ومتابعته"[106]

ومن ناحية العقل يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الناس خلق متساوون كأسنان المشط، فمن أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله؟[107]

الرسول لم ينص على إمام بعينه، ولو كان أمر شرعيا وضرورريا لما اختلف الأنصار والمهاجرون من الصحابة في سقيفة بني ساعدة على تنصيب الإمام[108]، ولا يمكن للرسول أن يترك النص للاختيار، ولم يكن الصحابة ليعدلوا عن نص ظاهر إلى الاختيار[109].

الإجماع لا يعتد به مادام فيه خلاف وأدى بالأمة إلى الفتنة ومقتل عثمان[110].

ويظهر من أقوال هؤلاء كما أبان ابن خلدون: أنهم ينشدون إلى تحقيق المثل العليا، ويعارضون نظام الملك أو الخلافة المقرون بالظلم والقهر والتمتع باللذات، والاعتداء على الحقوق والاستبداد الغاشم[111].

فهم لم يتهاونوا في شأن الإمامة إذا كان يفهم منها تنفيذ أحكام الشريعة، بل قد أعلنوا وجوبها، فنقلوا الوجوب من الإمامة كهيئة متميزة منفصلة إلى تنفيذ القانون نفسه، أي أن على الجميع الاشتراك في تنفيذ أحكام التشريع بأنفسهم، دون حاجة إلى وجود قوة قاهرة مسيطرة، وهذه هي الديمقراطية المباشرة أو الجمهورية في أكمل صورها كما يحلم بها فلاسفة السياسة. ولكن تحقيق هذا أمر متعذر، فإن اقترن وجود الدولة ببعض المساوئ فلا يمكن الاستغناء عنها^([112]).

والراجح: وجوبها؛ لسنة بين البشر، ولأنّ المصالح التي تتوافر بوجود الحاكم أكثر بكثير من المضار التي تلحق الأفراد، ويتحمل أخف الضررين لدفع أشدهما، ولأن الحرية الحقيقية هي التي تكون في ظل النظام لتأمين حريات وحقوق الآخرين، ثم إن المفاسد التي تحدث من تنازع وتقاتل وهلاك وفوضى وتعرض للأخطار الخارجية من العدو تفوق بكثير ما يفقد الشخص من بعض الحقوق أو يقدمه من ولاء وطاعة أو يتحمله من تبعات ومغارم^([113]).

ج/- الشروط الواجب توفرها في رئيس الدولة:

وظيفة الحاكم في النظام الإسلامي تقوم أساسا على تنفيذ القانون الإسلامي -الشريعة-، وهو الغرض الأول الذي من أجله يوجد الحاكم في هذا النظام[114]، لهذا الأمر لابد من إتباع طرق ومراحل دقيقة لاختياره لتحمل مسؤولية الأمة، والملاحظ أن العلماء والمفكرين المسلمين خاصة فقهاء السياسة الشرعية فصلوا في الأمر وتركوا لنا نصوصا هامة حول الشروط التي يجب أن تتوفر في خليفة المسلمين، تحت عناوين متعددة منها شروط الإمامة، فضائل الإمام وغيرها، وإن اتفقوا في العناصر العامة فقد اختلفوا في بعض الخصوصيات سنأتي على ذكرها في هذا العنصر.

     لابد من التنبيه إلى أن هناك من صنفها حسب الجانب الخَلْقي والخٌلُقي، وحسب الصفات المكتسبة وغيرها[115]، وهناك من رتبها حسب أهميتها بالنسبة للحاكم في حد ذاته مثل المارودي[116] وأبو يعلى الفراء[117] والشهرستاني[118] وابن خلدون[119] أما الغزالي فناقش مسألة الدين والنسب ودلالتهما في شخصية الحاكم[120]؛ أما ابن أبي الربيع[121] والفارابي[122]والطوسي[123]والطرطوشي[124]فتجاوزوا الجانب الشرعي إلى الجانب القيمي والفيزيزلوجي وحتى النفسي والأخلاقي ليبرزا أهمية الاستعداد الفطري والصفات والطبائع في تقلد منصب الملك.

      انطلاقا مما جمعت من نصوص وآراء وصفات حول الإمام في التصورات الفكرية والسياسية للعصر الإسلامي الوسيط سأقوم بتصنيفها كالآتي:

1/- صفات فيزيولوجية:

تتفق المصادر على أهمية اكتمال الحواس والأعضاء وسلامتها بالنسبة للحاكم أو الملك أو الإمام الشرعي حسب المصطلحات الواردة في الخطاب الفكري السياسي آنذاك، وتعود كلها إلى القيمة المعنوية والهيبة النفسية التي يمثلها أمام الرعية وأمام الأمم المجاورة آنذاك" وللشجاعة والقدرة على المدافعة، وللهيبة والوقار"[125]، وتتلخص –اعتمادا على المصادر المذكورة أعلاه- في:

1/- ما تعلق بالحواس: البصر، السمع، سلامة النطق، الشم الذوق.

 ورغم اتفاق أغلب المفكرين السياسيين على هذه الصفات إلا أن الجويني لم يمنع الجدع والأعور وما يشين المنظر من عقد الإمامة مادام لا يؤثر على صحة العقل والرأي.

2/- ما تعلق بالأعضاء: سلامة الرجلين واليدين (استيفاء الحركة وسرعة النهوض)، وعبر عن ذلك ابن أبي الربيع قائلا: "أن يكون صحيح الأعضاء تواتيه على ما يريده من الأعمال البدنية".

ب/- صفات وطبائع ذاتية:

     يركز بعض المفكرين على هذه الصفات باعتبارها تأخذ أهمية في التكوين الشخصي والذهني لرئيس الدولة وتمكنه من أداء مهامه بشكل يتوافق مع التدابير والمهام التي تلقى عليه، وهي في الغالب لازمة للشخص ولا تتغير بتغير الظروف والأزمنة نذكر منها:

الذكورة: فلا تجوز الإمامة للنساء

الحرية: فلا تجوز للعبيد

البلوغ: فلا تجوز للأطفال

العقل: فلا تجوز لفاقده خاصة المجانين

الذكاء والفطنة: فإذا رأى على الشيء أدنى دليل فطن له[126].

الشجاعة والشهامة: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو[127].

العدالة: على شروطها الجامعة[128].

الصدق: أن يكون صادقا ومحبا لأهله، كارها للكذب وأهله، طبعا لا تكلفا[129].

كبير النفس: أن يكون محبا للكرامة، يعظم نفسه من كل ما يشين[130].

العدل: أن يكون محبا له، مبغضا للجور والكذب وأهلهما منصفا من نفسه[131].

النسب: اختلف الفقهاء والمفكرون السياسيون في مسألة النسب القرشي، وقد اعتبره بعضهم شرطا أساسيا لا يمكن أن تقوم دونه الرياسة والملك.

وقد طرح الماوردي هذه المسألة باعتباره من أوائل المشرعين في مجال السياسة الشرعية فقال: "وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه، وانعقاد الإجماع عليه، ولا اعتبار بضرار حين شدّ فجوّزها في جميع الناس، لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحتجّ يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «الأئمة من قريش»، فاقلعوا عن التفرّد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا: منا أمير ومنكم أمير، تسليما لروايته وتصديقا لخبره، ورضوا بقوله: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قدِّموا قريشا ولا تقدموها» وليس مع هذا النصّ المسلّم شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له"[132]، ويبدو أن هذا الشرط مرتبط بالخلافة العباسية التي كانت قائمة آنذاك، أو بالأصح مرتبط بشرعيتها، وأولاه أبو يعلى الفراء الأهمية الأكبر حين استهل به الشروط وفصل في أهمية النسب القرشي في عقد الإمامة، وفصل البغدادي3

[133]في المسألة بين العلماء مبينا عدم سقوط هذا الشرط وضروريته في عقد الإمامة.

وقد سار الغزالي في هذا الاتجاه فقال: "...مع زيادة نسب قريش، وعلم هذا الشرط بالسمع حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" فهذا تميزه عن أكثر الخلق...بل أقول: لو لم يكن بعد وفاة الإمام إلا قرشي واحد متبع مطاع متبع...انعقدت إمامته ووجبت طاعته"[134].

     وقد اتبع الباقلاني[135] مذهبا وسطا، فاعتبر من الصفات الصالحة لعقد الإمامة "أن يكون قرشيا من الصميم"، ولكن إذا لم يجد في قريش من يقوم بمهام ومسؤوليات الأمة جاز اختيار غيره خوفا على الأمة من الفتنة والشتات.

     ولم يعرض الطوسي[136] على هذه المسألة لارتباط وظيفته ومنصبه بالسلاجقة الأتراك وهو ما يبين أن الصفات تتأرجح حسب الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية، فعند توفر شرط العصبة والقوة في قريش كان هذا مطلبا أساسيا في الخلافة، ومع بروز ونمو القوى في الأطراف –خاصة غير العربية منها- أصبح هذا المطلب مختلفا فيه، وهو أمر بديهي، ما لم يقم قرشي بقيادة الأمة وإعادتها إلى مصفها بين الأمم.

       وقد أخذ الطرطوشي المنحى نفسه فلم يعط اعتبارا للصفات الذاتية والمكتسبة من جراء الانتماء وغيرها، وإنما أشاد بالإمام العادل دون قيد أوشرط[137].

     وقد حاول ابن خلدون[138] تقديم تفسير لاشتراط النسب القرشي مدحضا أن ذلك مرتبط بالتبرك بوصلة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما الأمر مرتبط بالعصبية "التي تكون بها الحماية والمطالبة"، فقريش كانوا يشكلون عصبة تهابها القبائل والأمم آنذاك وكانت لهم العزة بالكثرة والعصبية والشرف على سائر مضر. 

الفطرة والاستعداد النفسي:

فالاستعداد هو الركن الأول في المرتبة ولذلك قدمه، والعلم بحال الأمة ومواضع قوتها وضعفها، وجودة الفكر في تدبير شؤونها، وهو الركن الثاني في المرتبة، فكم من عالم بحال زمانه غير مستعد للسلطة، واتخذه من هو مستعد لها سراجا يستضيء برأيه في تأسيس مملكته وسياستها، ولم ينهض به رأيه في أن يكون هو السيد أو الزعيم.[139]

     وقد عرج الفارابي على ذلك قائلا: "لأن الرئاسة إنما تكون بشيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معدا لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية، والرياسة تحصل لمن فطر بالطبع معدا لها...فكذلك ليس يمكن أن تكون صناعة رئاسة المدينة الفاضلة أي صناعة ما اتفقت، ولا أي ملكة ما اتفقت"[140]، ويظهر لنا أنه كثير الاطلاع على فكر الأمم السابقة وأخذ عنها تأثير العامل النفسي والتركيبة الذاتية والذهنية على شخصية الحاكم ولم يكتف بالنسب ومختلف الصفات الجسدية، بل هناك طاقة داخلية وحكمة ومنطق يساعد الشخص على القيام بمسؤولياته اتجاه الأمة.

ج/- صفات مكتسبة:

العلم: أخذ هذا الشرط نصيبا هاما من فكر المؤلفين على اعتبار أنه السند الرئيسي لإصدار الأحكام وتسيير أمور الدولة، وقد يؤثر سلبا على قرارات الحاكم إذا افتقده، وقد أفرز نقاشهم اتجاهين فمنهم من اعتبره شرط تسقط معه الإمامة، وبين من اكتفى بوجود علماء يرجع إليهم في قراراته.

يشترط الجويني أن يكون الإمام مجتهدا بالغا مبلغ المجتهدين، مستجمعا صفات المفتين، فلو لم يكن الإمام مستقلا بعلم الشريعة لاحتاج إلى مراجعة العلماء في تفاصيل الوقائع، وذلك يشتت رأيه، ويخرجه عن رتبة الاستقلال، كما أن أمور الدنيا تسير وفقا لمراسيم الشريعة.

فلابد من توفر السعة في العلم الذي يكون به التدبير: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾(النساء: 83) فالأمر المعضل الشاق يرد إلى أهله من أولي الأمر أصحاب العلم، ولكن إدراك الحل والإصابة فيه لا يدركها سوى أولي الفهم من أصحاب العقل الواعي المدرك لحقائق الأشياء الذين لهم القدرة على استنباط الحقيقة من جوهرها بما لهم من علم، وهناك معايير خلقية ذكرها القرآن في ولي الأمر مع رعيته: ﴿ َفبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَفَاعْفُعَنْهُمْوَاسْتَغْفِرْلَهُمْوَشَاوِرْهُمْفِيالْأَمْرِفَإِذَاعَزَمْتَفَتَوَكَّلْعَلَىاللَّهِإِنَّاللَّهَيُحِبُّالْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آلعمران: 159).[141]

وقد ناقش الغزالي[142] هذه المسألة مستعملا النمط الحجاجي فقال: "فلو انتهض لهذا الأمر من فيه الشروط كلها سوى العلم، ولكنه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم...فماذا ترون: أيجب خلعه ومخالفته أم تجب مبايعته وطاعته؟" وكان رد الغزالي أنه إذا وجد من تجتمع فيه الخصال كلها لا بد من منع رياسته دون قتال ولا فتن وإذا لم يوجد فقبلت إمامته على اعتبار أن الضرورات تبيع المحضورات، لكن في سياق نقاشه يؤكد على أنه شرط لا يرد.

وقد ذكر الطرطوشي[143] أهمية العلم للملوك على لسان ابن المقفع فقال: "يا أيها الملك ليس أحد فوق أن يأمر بتقوى الله، ولا أحد دون أن يؤمر بتقوى الله، ولا أحد أجل قدراً من أن يقبل أمر الله، ولا أرفع خطراً من أن يتعلم حكم الله، ولا أعلى شأناً من أن يتصف بصفة من صفات الله. ومن صفات الله تعالى: العلم الذي وصف به نفسه وتمدح بسعته، فقال تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ البقرة: 255) . والكرسي هو العلم، والكراسي هم العلماء. وإذا كان العلم فضيلة فرغبة الملوك وذوي الأخطار والأقدار والأشراف والشيوخ فيه أولى، لأن الخطأ فيهم أقبح والابتداء بالفضيلة فضيلة".

     وعليه لابد لولي الأمر أن يكون جيد الفهم والتصور، عالما بكتاب الله تعالى، علما يؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، ولم يكتف ابن أبي الربيع بذلك بل أضاف بأن يكون جيد الحفظ لما يراه ويسمعه، ولا ينسى ما يدركه من العلم ومحبا للعلم والتعلم والاستفادة منقادا، سهل القبول لا يؤلمه تعب التعلم[144].

     لم يأخذ أبو يعلى الفراء[145] منحى التفكير والتقييد الذي أخذه كثير من الفقهاء وإنما استند إلى رأي الإمام أحمد بن حنبل الذي أسقط العدالة والعلم والفضل، ورغم تعرضه للمحنة لم يدع المعتصم إلا بأمير المؤمنين مما يوجب الطاعة لأولي الأمر ما داموا قائمين على أمر الأمة.

العدل:   هو قوام الملك، ودوام الدول ورأس كل مملكة سواء كانت نبوية أو إصطلاحية، فقد قال الله سبحانه وتعالى  ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ النحل: 90،والعدل ميزان الله في الأرض، الذي به يؤخذ للضعيف من القوي وللمحق من المبطل[146]، وقد أضاف الطرطوشي[147] ناصحا الملوك قائلا: "فاجعل العدل سياستك تسقط عنك جميع الآفات المفسدة للسياسة، وتقوم لك جميع الشرائط التي تقوم بها للمملكة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم، وقال ابن مسعود: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر، وقال سليمان بن داود عليهما السلام:الرحمة والعدل يحرزان الملك"، وإكتفى بعض المفكرين بذكر العدالة والشجاعة فنلاحظ من خلال هذا النص أن ابن المقفع والطرطوشي اعتبراه أساس الاستمرارية والاستقرار.

الورع: فالتقوى والورع لابد منهما، إذ لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس، فكيف يولى أمور المسلمين كافة.

توقد الرأي في عظائم الأمور: والنظر في مغبات العواقب، وهذه الصفة ينتجها العقل ويهذبها التدريب في ذرق التجارب، فإن معظم الخبال والاختلال يتطرق إلى الأحوال من اضطراب الآراء.

حسن التدبير والسياسة: الرأي المفضي إلى سياسة الرعيّة وتدبير المصالح.

      من خلال ما تقدم يتبين لنا انعكاس الظروف السياسية والتقلبات العسكرية والمؤثرات الدينية على منطق المفكرين السياسيين وعلى طرحهم للشروط وحتى ترتيبها، خاصة النسب والعلم باعتبارهما لا يتوفران في كل الحكام وأولي الأمر، ما جعل بعضهم يتمسكون بهم ، والآخرين يتغاضون عنهم حسب التغيرات التي يعيشونها.

د/- طريقة تعيين رئيس الدولة:

      إذا توفرت الشروط سالفة الذكر في الفرد الذي ترى الجماعة أو الأمة أحقيته في الخلافة فلابد لوجود سلطة جماعية تقوم بتقديمه والتأكد من توفر شروط توليته، ثم مرافقته إلى أن يتحصل على مبايعة الأمة وانقيادها لأوامره، وهذه المسألة تتم على ثلاث مراحل:

د/1- المرحلة الأولى: اختيار الحاكم المناسب

ذكر الماوردي أن:  "الإمامة تنعقد من وجهين[148]:

أحدهما: باختيار أهل العقد والحلّ.

الثاني: بعهد الإمام من قبل

أ/- عن طريق أهل الحل والعقد:

     ذهبت كثير من المرجعيات إلى ضرورة الاستناد إلى رأي أهل الحل والعقد ورضاهم بالإمام الذي سيحمل على عاتقه تسيير شؤون الأمة بأكملها، ويعتبرون في ذلك إجماعا ترد به الشبهات ومختلف المعارضات التي قد تحدث جراء تغيير السلطة.

  وتمثل هذه الجماعة ممثلي الأمة ونوابها في تدبير المصالح العامة، لها صلاحية تفحص الأشخاص الحائزين على شروط الأهلية، وتقديم الصالح منهم للمبايعة[149]، وقد فصل الماوردي[150] والجويني[151] في صفاتهم كالآتي:

1/- الذكورة فلا دخل للنسوة في تخير الإمام وعقد الإمامة، ولو كانت استشارتهن ذات أولوية لكانت عائشة وأمهات المؤمنين أولى بذلك.

2/- الحرية فلا يناط الأمر بالعبيد، وإن حازوا قصب السبق في العلوم.

3/- أن يكونوا من الخاصة فلا يتعلق الأمر بالعوام الذين لا يعدون من العلماء وذوي الأحلام.

4/- الإسلام: فلا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة.

5/- الاجتهاد والعقل والعلم والرأي والحكمة: وهناك من لا يشترط بلوغ العاقد درجة الاجتهاد فيكفي أن يكون ذا عقل وكيس وفضل، وبصيرة متقدة بمن يصلح للإمامة.

6/- العدالة الجامعة لشروطها.

وقد ذهب كل من  ابن طاهر البغدادي[152] والماوردي والجوينيي[153] والباقلاني[154]إلى أن رضا أهل الحل والعقد بمثابة الإجماع على الاختيار، وفي ذلك يقول الماوردي:

"أن الاختيار من أهل الحل والعقد، وهو المستند المعتقد، والمعول المعتضد، فنقول ثبوت الاختيار يستدعي تقديم إثبات الإجماع على منكريه، وتحقيق الغرض فيه صعب المدرك...وليس في كتاب الله نص في إثبات الإجماع لا يقبل التأويل...وقوله الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"...اتفق المنتمون إلى الإسلام على ثبوت الإمامة ثم أطبقوا على أن سبيل إثباتها النص والاختيار... "  

وبعد أن أكد على ضرورتها، بين طريقة الاختيار التي يعتمدها أهل الحل والعقد، وهي اجتماعهم على اختيار الأفضل، وتأخذ اعتبارات إذا تساوى المتفق عليهم، ذكرها الماوردي كالآتي:

"فلو تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدّم لها اختيارا أسنّهما، وإن لم تكن زيادة السنّ مع كمال البلوغ شرطا، فإن بويع أصغرهما سنّا جاز؛ ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع، رُوعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت، فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة كان الأشجع أحقّ، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء وظهور أهل البدع كان الأعلم أحقّ..."[155].

قبل الانتقال إلى ولاية العهد خاصة منها ما تعلق بوراثة الحكم، مثل ما حدث في دولة بني أمية وبني العباس، فإن الباقلاني[156]. حاول إثبات –بشتى آليات المنطق والنص- عدم جواز وراثة الحكم من جهة فاطمة واعتبر الولاية لا علاقة لها بوراثة النساء لها فأبطل، ولا من جهة العم فأبطل وراثة بني العباس للحكم، وأبطل أيضا دعوى الشيعة بوراثة آل علي للحكم عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد أكد قائلا: "أنَّ الإمام إنما يصير إماما واجب الطاعة بعقد من يعقد له من أهل الإمامة" وفي هذا نص صريح بأولوية اختيار عن طريق أهل الحل والعقد ليفتح مجال الكفاءة واولية على حسب القدرة على الحفاظ على الأمة والسير بها نحو الأفضل.

ب/- ولاية العهد (عهد الإمام من قبل):

وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما.

أحدهما: أن أبا بكر رضي الله عنه فأثبت المسلمون إمامته بعهده.

والثاني: أن عمر رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها وهو أعيان العصر اعتقادا لصحة العهد بها وخرج باقي الصحابة منها، وقال علي للعباس رضوان الله عليهما حين عاتبه على الدخول في الشورى: كان أمرًا عظيمًا من أمور الإسلام لم أرى لنفسي الخروج منه فصار العهد بها إجماعا في انعقاد الإمامة، فإذا أراد الإمام أن يعهد بها فعليه أن يجهد رأيه في الأحق بها والأقوم بشروطها، فإذا تعيّن له الاجتهاد في واحد نظر فيه، فإن لم يكن ولدا ولا والدًا جاز أن ينفرد بعقد البيعة له وبتفويض العهد إليه، وإن لم يستشر فيه أحدا من أهل الاختيار، لكن اختلفوا هل يكون الرضى منهم شرطًا في انعقاد بيعته أو لا؟ فذهب بعض علماء أهل البصرة إلى أن رضى أهل الاختيار لبيعته شرط في لزومها للأمة، لأنها حق يتعلق بهم فلم تلزمهم إلا برضى أهل الاختيار منهم[157]. والصحيح أن بيعته منعقدة وأن الرضى بها غير معتبر، لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضى الصحابة؛ ولأن الإمام أحق بها فكان اختياره فيها أمضى وقوله فيها أنفذ؛ وإن كان ولي العهد ولدًا أو والدًا فقد اختلف في جواز انفراده بعقد البيعة له على ثلاثة مذاهب[158]:

أحدهما: لا يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لولد ولا لوالد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلا لها فيصبح منه حينئذ عقد البيعة له، لأن ذلك منه تزكية له تجري مجرى الشهادة؛ وتقليده على الأمة يجري مجرة الحكم وهو لا يجوز أن يشهد لوالد ولا لولد ولا يحكم لواحد منهما للتهمة العائدة إليه بما جبل من الميل إليه.

والمذهب الثاني: يجوز أن ينفرد بعقدها لولد ووالد لأنه أمير الأمة نافذ الأمر لهم وعليهم فغلب حكم المنصب على حكم النسب ولم يجعل للتهمة طريقا على أمانته ولا سبيلا إلى معارضته، وصار فيها كعهده بها إلى غير ولده ووالده، وهل يكون رضى أهل الاختيار بعد صحّة العهد معتبرًا في لزومه للأمة أ لا؟ على ما قدمناه من الوجهين.

والمذهب الثالث: أنه يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده ولا يجوز أن ينفرد بها لولده، لأن الطبع يبعث على ممايلة الوالد، ولذلك كان كل ما يقتنيه في الأغلب مذخورًا لولده دون والده؛ فأما عقده لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبيه، فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرده بها.

وناقش الجويني[159] هذه المسألة ثم اتبع تأسف على حال الخلافة وقال: "لم أر التمسك بما جرى من العهود من الخلفاء إلى بنيهم، لأن الخلافة بعد منقرض الخلفاء الأربعة الراشدين شابتها شوائب الاستيلاء والاستعلاء، وأضحى الحق المحض في الإمامة مرفوضا، وصارت الإمامة ملكا غضوضا"

د/2- المرحلة الثانية هي الرضا بالرياسة:

أساس هذا الشرط أن الخلافة من عقود المراضاة، ومعلوم أن هذه العقود لا يدخلها الإكراه، وعليه فإن الرضا شرط رئيس في الخلافة على المسلمين، ولا يجوز الإكراه على تولي هذا المنصب لما سيترتب عنه من إهمال وتقصير[160].

     بين الماوردي هذا الشرط نظرا لأهميته بالنسبة للأمة قائلا: "تعيّن لهم من بين الجماعة من أدّاهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة...وإن امتنع عن الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها، لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار، وعُدل عنه إلى من سواه من مستحقّيها..." وهنا إشارة إلى أنه من الضروري تعيين مجموعة من الأشخاص ممن يستحقون منصب الحاكم، قم يتم عرضها حسب الأولوية.

إمامة المفضول: مع وجود الأفضل

قد تتعدى مسألة الرضا إلى التنازع على المنصب من طرف مؤهلين للسلطة وتتوفر فيهم الشروط المذكورة أعلاه، واختلف الفقهاء فيما يقطع به تنازعهما مع تكافؤ أحوالهما[161]:

•  فقالت طائفة اختيار الحاكم بالقرعة بينهما، بينما ذهب الباقلاني[162] إلى أنه لا تجوز القرعة في عقد الإمامة.
• وقال آخرون: بل يكون أهل الاختيار بالخيار في بيعة أيهما شاءوا من غير قرعة، فلو تعيّن لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة فبايعوه على الإمامة، وحدث بعده من هو أفضل منه انعقدت ببيعتهم إمامة الأول، ولم يجز العدول عنه إلى من هو أفضل منه.

بعدها فصل الماوردي في آراء حول بيعة المفضول دون عذر قوي فقال:

"ولو ابتدأوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل نظر، فإن كان ذلك لعذر دعا إليه من كون الأفضل غائبا أو مريضا، أو كون المفضول أطوع في الناس وأقرب في القلوب، انعقدت بيعة المفضول وصحّت إمامته. وإن بويع لغير عذر فقد اختلف في انعقاد بيعته وصحة إمامته؛ فذهبت طائفة منهم الجاحظ إلى أن بيعته لا تنعقد؛ لأن الاختيار إذا دعا إلى أولى الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره مما ليس بأولى، كالاجتهاد في الأحكام الشرعية"[163].

وقد ذهب الباقلاني[164] هذا المذهب مؤكدا على ضرورة إمامة الفاضل إلا لعذر قاهر مثل خشية الفتنة والفساد، بينما كقير من الفقهاء والمتكلمين ذهبوا إلى جواز إمامته ما لم يقصر في تسيير مصالح الأمة، وتصح بيعته، ولا يكون وجود الأفضل مانعا من إمامة المفضول[165].

تعدد الحكام:

وإذا عُقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتها[166]، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد وإن شدّ قوم فجوّزوه.

واختلف الفقهاء في الإمام منهما[167]:

• فقالت طائفة هو الذي عقدت له الإمامة في البلد الذي مات فيه الحاكم الذي سبقه.
• وقال آخرون: بل على كل واحد منهما أن يدفع الإمامة عن نفسه ويسلمها إلى صاحبه طلبا للسلامة وحسما للفتنة ليختار أهل العقد أحدهما أو غيرهما.
• وقال آخرون: بل يقرع بينهما دفعا للتنازع وقطعا للتخاصم، فأيهما قرع كان بالإمامة أحقّ.

والصحيح في ذلك وما عليه الفقهاء المحققون أن الإمامة لأسبقهما بيعة وعقدا، فإذا تعيّن السابق منهما استقرّت له الإمامة وعلى المسبوق تسليم الأمر إليه والدخول في بيعته[168].

د/3- المرحلة الثالثة المرحلة الأهم وهي البيعة:

وتعد وسيلة إسناد السلطة إلى الحاكم يباشرها بالنيابة عن الأمة، والسنة وأن يقوم بفروض الإمامة، وتلتزم فيه الأمة بتقديم الطاعة والنصرة ما لم تتغير مبادئه وأخلاقه السياسية[169].

     وقد عرفها ابن خلدون[170]: "هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر..."

      ونظرا لأهمية دعم السلطة الدينية للسلطة السياسية، فإن الإمام مالك أولى أهمية واسعة لذكر الأحاديث المتعلقة بالبيعة ومختلف الممارسات السياسية، ليس بذكر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما تعدى ذلك إلى الإسقاط العلمي، إما من خلال فتاويه أو من خلال آثار الصحابة، فقد جاء: "حدثني مالك عن عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك يبايعه، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد لعبد الله بن عبد الملك أمير المؤمنين، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأقر لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله، فيما استطعت"[171].

      وقد أخذت أهمية واسعة في تصورات الأمة منظرين كانوا أو أهل سلطة، يقول الماوردي: "أن الخلفاء الراشدين...كان مستند أمورهم صفقة البيعة، فأما أبو بكر فقد تواترت له البيعة يوم السقيفة وكان عمر ولي عهده، وتعين عثمان من الستة المذكورة في الشورى بالبيعة، ولما انتهت إلى علي رضي الله عنه طالب البيعة: فأول من بايعه طلحة والزبير..."[172]"

     وعلى الرغم من أن ظروف الأمة كانت تقتضي من علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يتحمل مسؤولية تسييرها، ويعمل على استقرارها إلا أنه لم يرض بتولي الخلافة إلا برضى الأمة ومبايعته لها، يروي الطبري عن محمد بن الحنفية أنه قال: "كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحد أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تفعلوا فإني أكون وزيرا خيرا من أن أكون أميرا، فقالوا: لا ، والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين "[173].

     اتفق كل من الجويني[174] والماوردي[175] والشهرستاني[176] والباقلاني[177] أن البيعة تعقد بعدد كاف من الأتباع والأشياع والعلماء وممن لهم نظر في أفراد الأمة وعلم بأحداثها ومتطلباتها، الشرط المهم أنهم يكون عصبة أو قوة معنوية لتجنب الفتنة والعصيان، والأفضل أن تكون من أهل كامل البلدان والنواحي التابعة للدولة، بينما اختلفوا بين واحد واثنين وأربعة وأربعين ولكل عدد دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع.

د/4- واجبات ومسؤوليات الإمام:

جمع أبو يعلى الفراء[178] واجبات الإمام ولخصها كالآتي:

أحدهما: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسا من خلل والأمة ممنوعة من الزلل.

الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.

الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين.

الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.

الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرما ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد.

السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًا واجتهادًا من غير عسف.

الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.

التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال مضبوطة والأموال محفوظة.

العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة: فقد يخون الأمين ويغش الناصح.

وقد قال الله تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ ص/26 فلم يقتصر سبحانه وتعالى على التفويض دون المباشرة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».

وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم حقان: الطاعة، والنصرة، ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة.

ه/- طاعة الحاكم في الشرع الإسلامي:

       أخذت مسألة طاعة الحاكم أهمية واهتماما كبيرين من طرف العلماء والمتكلمين والمفكرين عموما، نظرا لأثرها على استقرار الدولة والثقة التي تعقد له فيتمكن من تحقيق مصالح الناس وحماية دولته من اعداء، وتوسع سلطته في تحقيق العدل، وتضيف له الاهتمام بالتجديد والتطور بدل انغماس في المشاكل والفتن والقضاء على المعارض، كما أنهم مدركين لعواقبها في حالة ما إذا خرجت الأمة عن الحاكم وما سينجر عنه من فتن وفساد وإزهاق للأرواح وضياع للأموال.

     على رأس هذا العنصر نذكر أن ائمة والعلماء وغيرهم من النخب العالمة لم تختلف في مسألة وجوب الطاعة للحاكم ونصرته إن احتاج إلى ذلك.

يقول الجويني[179]: "لو ثبت النص من الشارع على إمام، لم يشك مسلم في الأتّباع على الإجماع، فإن بذل السمع والطاعة للنبي واجب باتفاق الجماعة، وإن لم يصح النص، فاختيار من هو أهل الحل والعقد كاف في النصب والإقامة وعقد الإمامة. وقد تفننت في ذلك الآراء والمطالب، واختلف الأهواء والمذاهب"

    وقد انقسمت هذه النخب إلى فريقين:

الأول: يوجب الطاعة المطلقة، وفي ذلك قال الماوردي: " ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليّه في الدين، قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59).ففرض علينا طاعة أولي الأمر فينا وهم الأئمة المتأمرون علينا، وروى هشام ابن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيَليكم بعدي وُلاةٌ فيَليكم البَرُّ ببِرِّه والفاجرُ بفُجورِه فاسمَعوا لهم وأطيعوا في كلِّ ما وافَق الحقَّ وصَلُّوا وراءَهم فإنْ أحسَنوا فلكم ولهم وإنْ أساؤُوا فلكم وعليهم»"[180].

     ومن الأدلة المعتبرة في طاعة الحاكم أن الإمام مالك عاش فترتين بين الخلافتين الأموية والعباسية ولم يدع إلى الخروج عليهما رغم إتباعهما للحكم الوراثي، ويبدو في مواقفه أنه يمقت الفتنة لأنها تعم بها الفوضى وتحدث فيها مظالم لا تحصى، ومن جهة أخرى أن الحاكم وإن لم يتم اختياره من طرف العامة إلا أنه قد يصلح؛ فلم يكن الإمام مالك من الخارجين ولا من الموالين، ولم يدع إلى فتنة، وأن الاستبداد تتحمله الرعية "وكيفما تكونوا يولى عليكم"[181].

      كما أن أكثر الفقهاء وعلى رأسهم مالك أن الحاكم الظالم لا يصح ولا يجوز الخروج عليه بفتنة، ولكن يسعى في تغييرها من غير فتنة ولا انتقاص، لأنه في ضجة الفتن لا يسمع قول الحق، ويكون الشح المطاع والهوى المتبع[182].

وقد كان الطرطوشي[183] أكثر مؤلفي الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية اهتماما بمسألة "طاعة الحاكم" فأفرد لها الباب الخامس عشر تحت عنوان: "في بيان ما يعز به السلطان وهي الطاعة" وقد جاء في فيه ما نصه: " طاعة الأئمة فرض على الرعية. طاعة السلطان مقرونة بطاعة الله. اتقوا الله بحقه والسلطان بطاعته. من إجلال الله إجلال السلطان عادلاً كان أو جائراً "

الثاني: يوجب الطاعة المقيدة بالالتزام بحدود الشرع ومراعاة حقوق العباد ومصالحهم، فحق الطاعة للحاكم في النظام السياسي الإسلامي ليس مطلقا وإنما هو مقيد بعدم مخالفته للشريعة أي لأحكام القانون الإسلامي، فإذا خالفها سقط حقه في الطاعة بل صارت طاعته محرمة شرعا بعد أن كانت واجبة شرعا[184].

وهذا هو الاتجاه الغالب الذي سوف نقوم بالتفصيل في آرائه: في هذا الشأن قال ابن تيمية: " وأمر الولاة أين يؤدوا الأمانات إلى أهلها، أو إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل"[185]، فكان له حق الطاعة والنصرة، وأساس حق الطاعة للحاكم  في القرآن الكريم : ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم﴾ النساء/56، وفي السنة أحاديث كثيرة تقرر طاعة الإمام منها قوله الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني" صحيح البخاري 4/127[186].

كما جاء الخطاب موجها للأمة بضرورة مراقبة أفعال العباد مهما علت مراتبهم خاصة إذا حادوا عن الحق، وانحرفوا نحو الفساد والظلم، و"أساس ذلك من القرآن ﴿لاَ تُطِعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُسْرِفُونَ فِي الأَرْضِ وَ لاَ يُصْلِحُونَ﴾ الشعراء 151-152﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وكُبَراءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِم َضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ والْعَنْهُم لَعْنَا كَبِيرَا﴾ الأحزاب 67-68"[187]،فليس في الإسلام حكم مقيد لأحد من البشر ولا وكالة من الله تعالى ولا نيابة لأحد عنه...فالحاكم في الإسلام مقيد في حكمه بالشرع، وقد توعده الله تعالى بالعذاب إن لم يحكم بالعدل[188]، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يخاطب الأمة في بدء توليه الرئاسة فيقول: «وإن أسأت فقوموني» فجعل للأمة حق محاسبته وتقويمه[189]،وقد نقل عن أحد أمراء بني أمية أنه قال لأحد التابعين: أليس الله أمركم أن تطيعون في قوله: "وأولي الأمر منكم"، فقال: أليس قد نزعت عنكم -أي الطاعة- إذا خالفتم الحق بقوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ  وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ النساء 59.

          وأخذا بعين الاعتبار أن هذا العنصر مبني على الآية ما ورد في الآية 59 من سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ فقد اعتمدت على تفسير العلماء والفقهاء لهذه الآية، ودمعت بعض نصوص المفسرين وقدمتها كالآتي:

تفسير الطبري (ت310ه/923م) في كتابه جامع البيان في تفسير القرآن[190]:

لا اختلاف في طاعة الله ورسوله، لكن الاختلاف في تفسير من المقصور بأولي الأمر: "...عن أبي هريرة في قوله: ﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ قال: هم الأمراء... هم السلاطين...قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطَّاعَة الطَّاعة! وفي الطَّاعَةِ بلاءٌ ...وقال آخرون: هم أهل العلم والفقه...وقال آخرون: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم...وأوْلَي الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان طاعة وللمسلمين مصلحة...عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "سيَليكُمْ بَعْدِي وُلاةٌ، فَيَلِيكُمْ البَرُّ بِبرِّه والفَاجِرِ بِفُجُوره، فاسمَعُوا لَهُمْ وأطِيعُوا فِي كلّ ما وَافَقَ الحَقَّ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُمْ فإنْ أحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإنْ أساءوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ "...عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: " على المَرْء المُسْلِم الطَّاعَةُ فِيما أحَبَّ وكَرهَ، إلاَّ أنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصَيَةٍ فَمَنْ أُمرَ بِمَعْصِيَةِ فَلا طاعَةَ "...فإذا كان معلوماً أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: ﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ﴾ بطاعة ذوي أمرنا، كان معلوماً أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا هم الأئمة ومن ولاّه المسلمون دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضاً القبول من كل من أمر بترك معصية الله، ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية، فإنَّ على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية. وإذ كان ذلك كذلك كان معلوماً بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره. القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ﴾ يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن اختلفتم أيها المؤمنون في شيء من أمر دينكم أنتم فيما بينكم أو أنتم وولاة أمركم فاشتجرتم فيه، ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ﴾ يعني بذلك: فارتادوا معرفة حكم الذي اشتجرتم أنتم بينكم أو انتم وأولو أمركم من عند الله، يعني بذلك: من كتاب الله، فاتبعوا ما وجدتم. وأما قوله: ﴿وَٱلرَّسُولِ﴾ فَإِنَّهُ يِقُولُ: فَإِن تَجِدُواْ إِلَى علم ذلك في كتـاب الله سبيلاً، فارتادوا معرفة ذلك أيضاً من عند الرسول إن كان حيًّا وإن كان ميتاً فمن سنته"

تفسير السمرقندي (ت 373ه/983م) في كتابه بحر العلوم[191]:

وقوله تعالى: ﴿يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ﴾ أي في الفرائض ﴿وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ﴾ أي في السنن، ويقال: أطيعوا الله فيما فرض، وأطيعوا الرسول فيما بين...﴿وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ يعني أطيعوا أولي الأمر منكم. قال الكلبي ومقاتل: يعني أمراء السرايا. وقال الضحاك: يعني الفقهاء والعلماء في الدين. ويقال: الخلفاء والأمراء، ويجب طاعتهم ما لم يأمروا بالمعصية قوله: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ من الحلال والحرام والشرائع، ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾...وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة إلى أهلها فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه فإن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمرنا بطاعتهم. وقال مجاهد: ﴿وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ العلماء والفقهاء، وهكذا روي عن جابر.

تفسير الماوردي (ت450ه/1058م) في كتابه: النكت والعيون[192]:

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الْرَّسُولَ وِأُولي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ يعني أطيعوا الله في أوامره ونواهيه، وأطيعوا الرسول...وفي أولي الأمر أربعة أقاويل:

أحدها: هم الأمراء، وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة، والسدي، وابن زيد.

وقد روى هشام عن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سَيَلِيكُم بَعْدِي وُلاَةٌ، فَيَلِيكُمُ البَرُّ بِبِرِّهِ، وَبَلِيكُمُ الفَاجِرُ بِفجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُم وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الحَقَّ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُم، فإِن أَحْسَنٌواْ فَلَكُم وَلَهُم، وإنْ أَساءُوا فَلَكُم وَعَليهُم "

والقول الثاني: هم العلماء والفقهاء، وهو قول جابر بن عبد الله، والحسن، وعطاء، وأبي العالية.

والثالث: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول مجاهد.

والرابع: هم أبو بكر وعمر، وهو قول عكرمة.

وطاعة وَلاَةِ الأمر تلزم في طاعة الله دون معصيته، وهي طاعة يجوز أن تزول، لجواز معصيتهم، ولا يجوز أن تزول طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لامتناع معصيته...عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَلَى المرَءِ المُسْلِمِ الطَّاعةُ فِيمَا أَحبَّ أو كَرِهَ إلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيةٍ فَلاَ طَاعَةَ"

تفسير الزمخشري (ت 538ه/1143م) في كتابه تفسير الكشاف[193]:

لما أمر الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم. والمراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق لأن ـــ أمراء الجور ـــ الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن أضدادهما كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبي حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله ﴿وَأُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْكُمْ﴾ قال أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾...من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني ومن يعصِ أميري فقد عصاني"، وقيل هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر؛﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيءٍ﴾ فإن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر منكم في شيء من أمور الدين، فردّوه إلى الله ورسوله، أي ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة.

وكيف تلزم طاعة أمراء الجور وقد جنح الله الأمر بطاعة أولي الأمر بما لا يبقى معه شك، وهو أن أمرهم أولاً بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم وأمرهم آخراً بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئاً إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة ﴿ذٰلِكَ﴾ إشارة إلى الرد إلى الكتاب والسنة ﴿خَيْراً﴾ لكم وأصلح ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ وأحسن عاقبة، وقيل أحسن تأويلاً من تأويلكم أنتم.

تفسير ابن الجوزي (ت 597ه/1201م) في كتابه زاد الميسر في تفسير القرآن[194]:

في أولي الأمر أربعة أقوال.

أحدها: أنهم الأمراء، قاله أبو هريرة، وابن عباس في رواية، وزيد بن أسلم، والسدي، ومقاتل.

والثاني: أنهم العلماء، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهو قول جابر بن عبد الله، والحسن، وأبي العالية، وعطاء، والنخعي، والضحاك، ورواه خصيف، عن مجاهد.

والثالث: أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وبه قال بكر بن عبد الله المزني.

والرابع: أنهم أبو بكر، وعمر، وهذا قول عكرمة.

قوله تعالى: ﴿فإن تَنًاَزعْتًمْ فِي شَيْء﴾ قال الزجاج: معناه: اختلفتم. وقال كل فريق: القول قولي. واشتقاق المنازعة: أن كل واحد ينتزع الحجة.

قوله تعالى: ﴿فردوه إلى الله والرسول﴾ في كيفيّة هذا الرد قولان.

أحدهما: أن ردّه إلى الله ردّه إلى كتابه، ورده إِلى النبي رده إلى سنّته، هذا قول مجاهد، وقتادة، والجمهور. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الرّد يكون من وجهين. أحدهما: إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه. والثاني: الرّد إِليهما من جهة الدلالة عليه، واعتباره من طريق القياس، والنظائر.

والقول الثاني: أن ردّه إلى الله ورسوله أن يقول: من لا يعلم الشيء: الله ورسوله أعلم، ذكره قومٌ، منهم الزجاج.

تفسير الرازي (ت 606ه/1210م) في كتابه التفسير الكبير: مفاتيح الغيب[195]:

اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بالعدل في الرعية أمر الرعية بطاعة الولاة فقال: ﴿يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ﴾ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا...المسألة الثالثة: اعلم أن قوله: ﴿وَأُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْكُمْ﴾ يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وانه محال، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما، ثم نقول: ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة، لا جائز أن يكون بعض الأمة لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً، وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة، ولا طائفة من طوائفهم.

ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: ﴿وَأُوْلِى ٱلأمْرِ﴾أهل الحل والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة. فإن قيل: المفسرون ذكروا في ﴿أُوْلِى ٱلأمْرِ﴾ وجوها أخرى سوى ما ذكرتم: أحدها: أن المراد من أولي الأمر الخلفاء الراشدون، والثاني: المراد أمراء السرايا...وثالثها: المراد العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم...ورابعها: نقل عن الروافض أن المراد به الأئمة المعصومون، ولما كانت أقوال الأمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه، وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك بإجماع الأمة باطلا. السؤال الثاني: أن نقول: حمل أولي الأمر على الأمراء والسلاطين أولى مما ذكرتم. ويدل عليه وجوه: الأول: أن الأمراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق، فهم في الحقيقة أولو الأمر أما أهل الإجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق، فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى.

والثاني: أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه، أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل، وأما آخر الآية فهو أنه تعالى أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الاجماع. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في الترغيب في طاعة الأمراء، فقال: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني".

تفسير النسفي (ت 710ه/1310م) في كتابه مدارك التنزيل وحقائق التأويل[196]:

ولما أمر الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل أمر الناس بأن يطيعوهم بقوله ﴿يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ أي الولاة أو العلماء لأن أمرهم ينفذ على الأمر ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ﴾ فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شيء من أمور الدين ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾ أي ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ﴾ أي إن الإيمان يوجب الطاعة دون العصيان، ودلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلا طاعة لهم لقوله عليه السلام "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".

وحكي أن مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال لأبي حازم: ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله: و﴿أولي الأمر منكم﴾؟ فقال أبو حازم: أليس قد نزعت الطاعة عنكم إذا خالفتم الحق. بقوله «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله» أي القرآن و﴿الرسول﴾ في حياته وإلى أحاديثه بعد وفاته ﴿ذٰلِكَ﴾ إشارة إلى الرد أي الرد إلى الكتاب والسنة ﴿خَيْرٌ﴾ عاجلاً ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾

تفسير ابن كثير (ت 774ه/1373م) في كتابه تفسير تفسير القرآن العظيم[197]:

عن ابن عباس: الآية﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ قال نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث حجاج بن محمد الأعور به. وقال الترمذي حديث حسن غريب...عن علي، ...قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا، وجد عليهم في شيء، قال فقال لهم أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا بلى. قال اجمعوا لي حطباً، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال عزمت عليكم لتدخلنها، قال فهمّ القوم أن يدخلوها، قال فقال لهم شاب منهم إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، قال فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف".

حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة " وأخرجاه من حديث يحيى القطان. وعن عبادة بن الصامت قال "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله، قال "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان"، أخرجاه، وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " ، رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً حبشياً مُجَدّع الأطراف، رواه مسلم. وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول " ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا "رواه مسلم، وفي لفظ له " عبداً حبشياً مجدوعاً "...عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البرّ ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم" وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون" قالوا يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال " أوفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم"، أخرجاه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رأى من أميره شيئاً فكرهه، فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات ميتة جاهلية " ، أخرجاه. وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " رواه مسلم.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ﴿وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ يعني أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية ﴿وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ يعني العلماء. والظاهر، والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم. وقد قال تعالى﴿لَوْلاَ يَنْهَـٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ } المائدة 63 وقال تعالى﴿فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ النحل 43 وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال" من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله، ومن أطاع أميري، فقد أطاعني، ومن عصى أميري، فقد عصاني " ، فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى ﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ﴾ أي اتبعوا كتابه ﴿وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ﴾ أي خذوا بسنته ﴿َأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ أي فيما أمروكم به من طاعة الله، لا في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح " إنما الطاعة في المعروف ".

      من خلال الاطلاع على هذه التفاسير نجدهم يتفقون نوعا ما على أن أولي الأمر هم: "الأمراء والولاة" و"العلماء والفقهاء" "خاصة الأمة من أهل الحل والعقد"، ويعتمدون في تفاسيرهم على ما جاء في القرآن والأحاديث والإجماع.

و/- المعارضة الشرعية:

       من الضروري في البداية التوضيح أن مصطلح المعارضة لم يكن موجودا في ذلك الوقت لكنني استعملت هذا المصطلح نظرا لاعتماده حاليا من طرف المفكرين المعاصرين[198]كتعبير عن الوقوف في وجه الأحكام التي تصدرها الدولة، ومن جهة أخرى ارتأيت مناقشة هذا العنصر بعد أن ورد في تفاسير الآية:﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ ما يفرض عدم اتباع الحاكم في معصية، ولابد من معارضة الحاكم إذا خالف ما ورد في الشرع، فهل ورد في كتب الفقه والتنظير السياسي ما يفيدنا في الطرق التي تساهم في تغيير الحكم دون حدوث فتنة في الدولة، أم أن هذه المؤلفات اكتفت بالإشارة إلى هذا الأمر دون التفصيل في آلياته وطرقه؟

سوف ننطلق في عرض الآراء في هذا العنصر بعد أنننقل أقوال بعض المستشرقين المبنية على الهوى والتحكم والمجردة من الموضوعية والدليل[199]:

يقول الأستاذ أرنولد: «فالنظرية السياسية (أي الإسلامية) يبدو أنها تقيد أن كل سلطة دنيوية إنما هي بتعيين من الله وإن واجب الرعية أن تطيع سواء اكان الحاكم عادلا أو ظالما لأنه مسؤول فقط أمام الله».

ويقول الأستاذ موير: «إن المثال والنموذج للحاكم الإسلامي هو الحاكم المطلق المستبد».

ويقول الأستاذ ماكدونالد: «مع بعض القيود يجب أن يحكم الإمام كحاكم مطلق».

فهل فعلا تخلو أحداث التاريخ الإسلامي من الوقائع التي تبرز ممارسات المسلمين وأفكارهم حول المعارضة؟

من أدلة المعارضة:

في القرآن: وردت المعارضة بمعنى المجادلة والتنازع والشجار والجدل[200]، منها قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾ النساء/59، وقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ النساء/65، وفي قوله و﴿َلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[201] آل عمران/104، وأيضا: ﴿اذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ  فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾ طه/43-44[202].

من السنة[203]: وردت وقائع لم ينكرها الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على جواز المعارضة ولزومها إذا رأى المسلمون ما يعتقدون خطأه وأثره البي على الأمة، منها اعتراض الحباب بن المنذر يوم بدر على الرسول صلى الله عليه وسلم في اختياره للموقع الذي نزلوا به، كما أن أبا حنيفة بن عتبة أنكر أن يترك بني هاشم ولا يقتلون يوم بدر حتى اقتنع بالعذر من الرسول صلى الله عليه وسلم.

من الإجماع: خروج الحسين رضي الله عنه وهو عالم وابن بنت رسول الله الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن العباس يقول: "ليس للظالمين عهد"[204]، ومنها معارضة المسلمين لأبي بكر في حروب الردة، ومعارضة عمر للخروج بنفسه لقتال الفرس[205]، والمعارضة التي أخذت أبعادا خطيرة هي معارضة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه نتيجة لتولية أقاربه وبعض المآخذ التي أخذت عليه، والتي أعطت صورة واضحة لعدم سكوت الصحابة عن تصرفات الحاكم إذا رأوا فيها ما يخالف بعض أمور الشرع حسب وجهة نظرهم[206].

إن مسؤولية الإمام أمام الأمة تبدأ بالنصح والإرشاد وقد تنتهي بالخلع والإبعاد وإلى مثل هذا تشير أقوال العلماء، قال ابن حزم الأندلسي: «...فإن امتنع من نفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق» ثم يكرر ابن حزم هذا المعنى أيضا فيقول: «فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره»، وقال البغدادي: «ومتى زاغ عن ذلك كانت الأمة عيارا عليه في العدول به من خطئه إلى صواب أو في العدول عنه إلى غيره»، وإلى مثل ذلك ذهب بقية العلماء[207].

فجمهور الفقهاء كالشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية وغيرهم «يرون الإمام مسؤولا عن كل جريمة ارتكبها سواء تعلقت بحق الله أو بحق الفرد لأن النصوص عامة والجرائم محرمة على الكافة بما فيهم الغمام، معاقب عليها مَنْ ارتكبها كائنا من كان ولو كان الغمام. فإذا ارتكب جريمة وحكم عليه بعقوبتها نفذ العقوبة على الإمام أحد من ينوبون عنه ممن لهم تنفيذ هذه العقوبة»[208].

طرق المعارضة:

الوسائل السلمية: إن الطرق الصحيحة والآليات الكفيلة بإصلاح الحكم، وتقويم الحاكم هي المعارضة السلمية التي تدخل في مفهوم النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحكمها يدور بين الوجوب وفرض الكفاية؛ أما المعارضة بالقوة والخروج فالأصل فيها المنع لما ورد من النصوص الشرعية التي تحرم الفتنة والفساد.

     وقد نهى الجويني عن استعمل القوة في المعارضة:

"ومما يتم بإتمام الغرض في ذلك أن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته، وكثرت عاديته، وفشا احتكامه واهتضامه، وبدت فضحاته، وتتابعت عثراته، وخيف بسببه ضياع البيضة، وتبدد دعائم الإسلام، ولم نجد من ننصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسبما يدفع البغاة، فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا، فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيروا، وكان ذلك سببا في زيادة المحن، وإثارة الفتن"[209]

استعمال القوة والسيف: لم يذهب العلماء هذا المذهب إلا أن يكون هناك جور وظلم لا يغير إلا بالسيف، وعرف في التاريخ أن الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير والمهلب بن أبي صفرة والخوارج والزيدية والمعتزلة وبعض أهل السنة يرون الخروج والثورة،  وإن كان بعضهم يرى أن الحسين وعبد الله بن الزبير لهما مبرر واضح وهو عدم جواز إمامة الفاسق، ولهذا خرجوا على يزيد من باب التصحيح وتغيير المنكر[210].

قال ابن حزم: "ذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة والزيدية إلى أن سلّ السيوف واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك"[211]

وقال ابن تيمية: "وقد استفاض وتقرر في غير هذا الموضع ما قد أمر به من طاعة الأمراء في غير معصية الله، ومناصحتهم والصبر عليهم في حكمهم... وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانتهم على ظلمهم وطاعتهم في معصية الله ونحو ذلك مما هو في باب التعاون على الإثم والعدوان"، قال: "لا يُزال المنكر بما هو أنكر منه بحيث يخرج عليهم بالسلاح وتقام الفتن كما هو معروف من أصول أهل السنة والجماعة كما دلت عليه النصوص النبوية"[212].

وقال ابن أبي العز: »وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد بالاستغفار والتوبة وإصلاح العمل»، ثم قال: «فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم فليتركوا الظلم، وعن مالك بن دينار: أنه جاء في بعض كتب الله: أنا الله مالك الملك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك، ولكن توبوا أعطفهم عليكم»[213].

ز/- خلع الحاكم أو عزله واستقالته:

نظرا لأهمية الإمامة وعلو مكانتها بين أحكام الشرع وأحيانا قدسيتها في نمط تفكير بعض المتكلمين في السياسة، فقد أخذت مسألة المعارضة والخروج عن الحاكم منعطفا لابد من الوقوف عنده خوفا على الأمة من الفتن والفساد، ومن جهة أخرى حتى لا تسقط هيبة الإمام من نفوس الرعية ويصبح العصيان ظاهرة متفشية في دار الإسلام.

يحذر الجويني من تصيد الفلتات الصغيرة لضرب استقرار الدولة وجر الرعية نحو خلع الإمام وعزله دون التثبت من أسباب عميقة للقيام بذلك: "الهنات والصغائر محطوطة، وما يجري من الكبائر مجرى العثرة والفترة، من غير استمرار عليها، لا يوجب عندنا خلعا ولا انخلاعا...وأما التمادي في الفسوق إذا جر خبطا وخبلا في النظر...فذلك يقتضي خلعا وانخلاعا..."[214]

. ويذهب ابن حزم إلى ضرورة نصحه أولا: "والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قلّ أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق ... فلا سبيل إلى خلعه... فإن امتنع عن إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ المائدة/2[215].

ز/1- أسباب عزل الحاكم:

    ويمكن تلخيص الأسباب التي توجب العزل في انتفاء أو انقلاب الصفات والشروط التي كانت ضرورة لتوليه منصب الإمامة، وتتمثل فيما يأتي:

أسباب فيزيولوجية: تتمثل في اضطراب في العقل والمرض الذي لا يرجى منه شفاء والعمى والصمم[216]، واستثنى الماوردي فقدان الأعضاء التي لا تؤثر على الحنكة ورجاحة العقل[217].

أسباب ذاتية دينية: تتعلق بالدرجة الأولى بالفسوق، فإن في الأمر استهانة بأحكام الإسلام، وسقوط الثقة في أمر الدين[218]، ويوجب العزل لضرره بالأمة وشرائعها؛ ويرى الإمام الشافعي أن الإمام ينعزل بالفسق والجور وكذا كل قاض وأمير[219]. وقد أشار الجويني إلى الإسلام عموما، فكل انسلال عن الدين يسقط الإمامة، وحتى لو جدد إسلامه لا تنعقد له إلا بعد أن يتم انتخابه من طرف أهل الحل والعقد[220].وقال الشوكاني: "قال في الفتح: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا يجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليه ... ولا ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السلف الصالح من العترة وغيرهم على أئمة الجور، فإنهم فعلوا ذلك باجتهاد منهم ..."[221].

      وقد حذر الباقلاني من الاستكانة لفسوق الحاكم فقال: "أو أن يقول قائل: أين يذهب بكم؟ هذا قد زالت إمامته، فلا وجه للمطالبة بخلعه دليلٌ على أنَّ الكُلّ. كان يرى: أنَّ الفسق لا يُوجبُ إِبطالَ الإمامة، وإنْ كان منهم من يرى أنَّه يَدَعُ المُطالبة بالاجتماع فذلك خطأ في حكم الدين. وكذلك لو جاء رَبِض إمامين في وقت واحد لعدلوا مع حِصاره إلى نُصْبَةِ عليّ رضي الله عنه أو غيره، ولقال بعضهم لبعض"[222].

     أما الماوردي فقد فصل في ما يجرح في عدالته فقال: قال الماوردي[223]: "والذي يتغير به حاله – أي الأمام – فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته، والثاني: نقص في بدنه، فأما الجرح في عدالته، وهو الفسق، فهو على ضربين: أحدهما ما تابع فيه الشهوة، والثاني: ما تعلق فيه بشبهة فأما الاول فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى فهذا فسق يمنع انعقاد الإمامة ويمنع من استدامتها فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد...وأما الثاني فمتعلق بالاعتقاد المتأول بشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق، فقد اختلف العلماء فيها فذهب فريق إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ويخرج بحدوثه منها..."

ولم يختلف العلماء في عزل الحاكم إذا خرج عن الدين وأعلن فسقه وقد جمع أحد الباحثين[224] آراءهم كالآتي:

• يرى الإمام الشافعي أن الإمام ينعزل بالفسق والجور وكذا كل قاض وأمير.
• وذكر البغدادي أن الأمام "متى زاغ... كانت الأمة عيارا عليه في العدول به من خطئه إلى صواب أو في العدول عنه إلى غيره وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه وقضاته وعماله وسعاه إن زاغوا عن سنته عدل بهم أو عدل عنهم".
• قال الجويني النيسابوري: "ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، وهذا مجمع عليه، فأما إذا فسق وفجر وخرج عن سمت الإمامة بفسقه فانخلاعه من غير خلع ممكن وإن لم يحكم بانخلاعه، وجواز خلعه وامتناع ذلك وتقويم أوده ممكن ما وجدنا إلى التقويم سبيلا. وكل ذلك من المجتهدات عندنا".
• وقال الباقلاني: "وغن قال قائل ما الذي يوجب خلع الإمام عندكم؟ قيل له يوجب ذلك أمور منها: كفر بعد الإيمان ومنها تركه إقامة الصلاة والدعاء إلى ذلك ومنها عند كثير من الناس فسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود".
• وقال الشهرستاني: "وإن ظهر بعد ذلك – أي من الإمام – جهل أو جور أو ضلال أو كفر، انخلع منها، أو خلعناه".
• وذكر الرازي: "إن الظالمين غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق".
• وقال الغزالي: "إن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته وهو غما معزول أو واجب العزل... وهو على التحقيق ليس بسلطان".
• وقال الأيجي: «وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه» وقد شرح هذه العبارة صاحب شرح المواقف بقوله: «مثل أن يوجد ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها» وهذا على ما نرى تقرير لمبدأ هام: إن من ملك التولية ليستقيم الأمر فإنه يملك العزل عند اعوجاجه.

أسباب ذاتية تتعلق بالحكم: عدم قدرته على التحكم في أطراف دولته، ضعف شخصيته أما الرعية رغم توفر شروط العدالة والعلم والنسب وغيرها[225].

أسباب خارجية مثل: الأسر الذي تضيع معه أمور الرعية فلا تجد من يسيرها وينظم أمورها[226]،وقد ذكر العلماء أن الخليفة تعزله الأمة إذا صار بوضع لا يتمكن معه من إدارة شؤون الأمة كما لو كان أسيرا مقهورا في يد عدو فللأمة فسخ عقده[227]، فقد قال الماوردي في ذلك: «وأما القهر فهو أن يصير مأسورا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه فيمنع ذلك عقد الإمامة بعجزه عن النظر في أمور المسلمين وللأمة فسخه في اختيار من عداه من ذوي القدرة"، كما أشار الجويني إلى ذلك قائلا: "إذا أسر الإمام وحبس في المطامير وبعد توقع خلاصه، وخلت ديار الإسلام عن الإمام، فلا سبيل إلى ترك الخطط شاغرة"[228]

     أو عن طريق الحجر مثل أن يستولي أحد أعوانه وموظفيه على الحكم، ويستبد بتنفيذ الأمور دون معصية ومجاهرة بالخروج على الحاكم، فالأمر لا يفسخ عقد إمامته إذا كان المتصرف يقوم بأمر الأمة على وجهه الأكمل[229].

ز/2- طرق العزل:

تفاديا للاضطرابات وانفلات الأمن والاستقرار فإن التشريع الإسلامي يجعل لهيئة الحل والعقد مسؤولية عزل الحاكم دون غيرها[230]،فحق الأمة في مساءلة الحاكم يبدأ بالنصح والإرشاد وينتهي – إذا لم ينفع ذلك – بالخلع والإبعاد، لأن الأمة اختارت الخليفة وسيلة لتنفيذ شرع الله فإذا لم يعد وسيلة للتنفيذ أو استحال عقبة في سبيل تنفيذ الشرع وجب استبدال غيره به ليقوم بتنفيذ الشريعة[231].

خلع الإمام لنفسه: اختلف الفقهاء بين القول بإمكانية الخلع ورفضها تماما

فقد ذهب الاتجاه الأول إلى أن الإمام يمكن خلع نفسه، مستدلين بما صح تواترا من خلع الحسن بن علي رضي الله عنهما نفسه ولم يبد أحد نكيرا عليه[232]، ومن العلماء الذين قالوا بذلك[233]:

قال الماوردي: «إن للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة».

وقال الجويني النيسابوري: «وخلع الإمام نفسه من غير سبب محتمل أيضا».

ومن السوابق الدستورية في ذلك ما فعله أبو بكر رضي الله عنه فقد ورد في الإمامة والسياسة أنه: "لما تمت البيعة لأبي بكر أقام ثلاثة أيام يقيل الناس ويستقبلهم يقول: قد أقتلكم في بيعتي هل من كاره؟ هل من مبغض؟ فيقوم علي في أول الناس فيقول: والله لا نقيلك ولا نستقيلك أبدا قد قدمك رسول الله لتوجيه ديننا من الذي يؤخرك لتوجيه دنيانا؟"، فهذا أبو بكر رضي الله يقدم استعفاءه إلى الأمة فلا ينازعه أحد في جواز تقديم الاستعفاء ولكنهم رفضوا إعفاءه لاعتقادهم بأفضليته وتوفر شروط الإمارة فيه؛ ولو كان الاستعفاء غير جائز لما قدمه أبو بكر ولأنكر عليه الصحابة ذلك.

وذهب الاتجاه الثاني أن الإمامة عقد تلزم الإمام وكافة المسلمين[234]،وليس للحاكم عزل نفسه أو الاستعفاء ما لم توافق الأمة على ذلك ويعللون ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز له عزل نفسه من الرسالة، ولأن في عزل نفسه إلحاق ضرر بالمسلمين لأن الدار تصير دار فترة إلى أن يعقد لإمام آخر فيقضي إلى تأخير استيفاء الحقوق وإقامة الحدود.

وقد ذكر أبو يعلى هذا الرأي ونسبه إلى أصحاب الأشعري ذاكرا معه الرأي الآخر الذي يقول بالجواز ويكيف علاقته بالأمة (وكالة) وللوكيل عزل نفسه.

وقد اختار الجويني أن الإمام إذا أراد خلع نفسه دون حدوث أي اضطراب فله ذلك، لكن إذا علم بضرر المسلمين وبلدهم فليس له ذلك[235].

ومما تقدم يظهر أن مبدأ عزل الخليفة بسبب يوجبه هو مبدأ ثابت في الشرع بأدلة قوية جازمة وأن الأمة هي التي تتولى ذلك بما لها من ولاية عليه، فهي التي خولها الشرع أنو توليه ليستقيم الأمر وينفذ الشرع وهي التي خولها الشرع أيضا أن تعزله إذا إعوج الأمر وعطل الشرع[236].

وأساس حق الأمة في عزل الحاكم يستند إلى جملة أمور[237]:

منها أنه وكيل عن الأمة اختارته ليمارس السلطة نيابة عنها فإذا خرج عن حدود وكالته حق للأمة عزله واختيار سواه.

ومنها أن (محل التزامه) في عقد البيعة هو تنفيذ الشرع فإذا خرج على ذلك وتحلل من التزامه جاز للطرف الآخر (الأمة) التحلل من بيعته ومن ثم عزله.

ومنها أن الأمة مكلفة بالنهي عن المنكر ويدخل في ذلك عزل الخليفة بسبب يوجبه.

ومنها أن الأمة هي التي اختارته فلها حق عزله لأن من يملك حق التعيين يملك حق العزل، ولكن استعمال هذا الحق يقتضي وجود المبرر الشرعي.

4/- بيعة العقبة

     تعد بيعة العقبة منعرجا حاسما بين فترتين الأولى كانت فيها الدعوة تحت لواء الرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن تكون له سلطة تنظم حياة المسلمين الأوائل وكانت العقائد هي الهدف والمنهج الرئيسي لتثبيت الإسلام، في حين تأتي المرحلة الثانية بعد الهجرة وهي مرحلة التشريعات والتنظيم تحت لواء سلطته أين تتجسد تعاليم الدين ويثبت الإسلام فتكون الدولة هي أساس انتصار الدين، وتكون بيعة العقبة هي نقطة تحول عبرت عن النصرة وتغير مفاهيم الولاء للدين على حساب النسب.

أ/- تعريف البيعة:

       قبل التوسع في السياقات التاريخية لبيعة العقبة نعرف البيعة للتعمق وفهم طبيعة الظاهرة التاريخية التي ولدتها بيعة العقبة، ويمكن الرجوع أولا إلى:

الناحية اللغوية: يقول ابن منظور[238]: "والبيعة: الصفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة، وقد تبايعوا على الأمر: كقولك اصفقوا عليه، وبايعه عليه مبايعة عاهده...واستدل بما ورد في الحديث: ألا تبايعوني على الإسلام؟ هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره"

    وقد ورد في الاصطلاح ما يوافق ويخدم المعنى اللغوي، فقد عرفها ابن خلدون[239]: "اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره..."؛ يظهر من الناحية اللغوية أن طبيعة العلاقة السياسية التي أنشأها الوحي وجسدها الرسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام في علاقته بجماعة المسلمين، وهي طبيعة تعاقدية يمنح فيها كل طرف الآخر ما عنده[240].

وصفة العقد أن يقال: "بايعناك على بيعة رضا، على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة ولا يحتاج مع ذلك إلى صفقة اليد"[241].

ورد ذكر البيعة في القرآن الكريم في مواضع شتى منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ الفتح/10.

ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ الممتحنة/12.

ومنها قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ...﴾ الفتح/18.

وورد ذكر البيعة في السنة النبوية أيضا، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "من بايع أميرا فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع...". وقوله عليه الصلاة والسلام: "ومَنْ مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" وكذلك قول النبي الكريم لأهل العقبة: "... تبايعونني على ان تشهدوا أن لا إله إلا الله واني رسول الله.." وقوله عليه الصلاة والسلام أيضا: "إنه لا نبي من بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول"؛ ومن مجموع هذه النصوص يتبين أن (البيعة) عقد وعهد يستلزم الوفاء. "فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن – أوفى – بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما" وهذا العقد أو العهد دل عليه الكتاب واشارت إليه السنة؛ والبيعة تجد سندها مع الكتاب والسنة وفي الإجماع أيضا، ذلك أن المسلمين قد أجمعوا يوم تولية أبي بكر رضي الله عنه على ان (البيعة) هي وسيلة إسناد السلطة إلى الامير فأمروا أبا بكر بموجبها ولم يعترض أحد على ذلك فيكون إجماعا[242].

    وإن كان المقصود هنا هي البيعة التي يأخذها السلطان عند توليه السلطة من العامة والخاصة، إلا أن مستندها الشرعي أو أصلها هي بيعة العقبة، التي وردت في نصوص السيرة لتبين الشكل الأولي للعلاقة السياسية بين النبي وجماعة المؤمنين التي أخذت هي الأخرى في التحول إلى جماعة سياسية بعد إن ارتفع عددها؛ فقبل هذه العلاقة وقبل هذا التطور لم يكم المؤمنون بحاجة إلى مبايعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاعتراف به رسولا من عند الله كاف للتأثر بدعوته، فهو الملقي وهم المتلقون، ولا تلزمهم العقيدة الجديدة ببرنامج سياسي يعالج علاقاتهم الداخلية أو الخارجية[243].

ب/- دعوة أهل يثرب إلى الإسلام والتمهيد لبيعة العقبة:

        المعلوم تاريخيا أو الرسول صلى الله عليه وسلم تعرض للأذى من طرف قريش نظير قيامه بالدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك وعبادة الأوثان، الأمر الذي جعله يبحث عن بيئة جديدة لتوسيع دعوته والتمكين للإسلام بين القبائل العربية على الأقل في الفترة الأولى من الدعوة، وهذه المسألة وجدت فرصتها أثناء مجيء القبائل إلى مكة للحج، وهو ما حصل فعلا مع قبائل من الأوس والخزرج التي كانت تقطن بيثرب آنذاك، وقد سمعت بدعوته وتحينت الفرصة للقائه والانضواء تحت هذا الدين الجديد.

     والمتتبع لأحداث السيرة يجد أن هناك ظروف وأشخاص وأسباب ساهمت في معرفة الأوس والخزرج بهذا الدين الجديد، وفتحت المجال أمام التمهيد لمعرفتهم بالدين الجديد، والملاحظ أنهم كانت لديهم فكرة عن مسائل الأنبياء والدعوة نظرا لكون المنطقة موطنا لليهود[244] ولمن اطلع على شرائع الأولين ويعد حديث سويد بن صامت الأنصاري رواية هامة لفهم القبول الأولي لأهل يثرب دون غيرهم.

حديث سويد بن صامت الأنصاري[245]:

وهو قال محمد بن إسحاق بن يار: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما عنده. قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه. قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا – أو معتمرا – وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه[246].

قال فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعه به فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك قال مجلة لقمان – يعني حكمة لقمان – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعرضها على، فعرضها عليه فقال "إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليّ هو هدى ونور" فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام. فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج. فإن كان رجال من قومه ليقولون إنا لنراه قتل وهو مسلم[247].

       في هذه الرواية دلالات هامة لوجود بيئة ومناخ ديني في منطقة يثرب جعلهم يهتمون بهذه الدعوة على غرار كل القبائل التي لم تعطها الأهمية البالغة، أو تفكر في احتضانها أو استغلالها لصالحها سياسيا واجتماعيا، فقد كانت الشرائع القديمة متداولة ومتناقلة في يثرب ولم تكن غريبة مسألة الدعوة، وإنما كانت مستساغة في ذهنيتهم، وهذا هو العامل الرئيسي الذي جعل الأوس والجزرج يتناقلون بينهم أمر الدين الجديد.

     وقد جاءت رواية أخرى تتحدث عن إسلام أحد أعيان الخزرج وهو إياس بن معاذ،قال ابن اسحاق: "لما قدم أبو الحيسر أنس بن راع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل يهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتاهم جلس إليهم قال: «هل لكم من خير مما جئتم له؟ قال قالوا وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، قال فقال: إياس بن معاذ –وكان غلاما حدثا- يا قوم هذا والله خير مما جئتم له أخذ أبو الحيسر أنس بن راع حنة من تراب البحاء فضرب بها وجه بن معاذ وقال: دعنا منك لعمري لقد جئنا لغير هذا، قال فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج. قال ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، قال محمود بن لبيد اخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، ما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما..."[248].

      رغم أنه من الصعوبة تصديق كل هذه الروايات، فإنه من غير الممكن أيضا تكذيبها، رغم الطابع القصصي لبعض الروايات، ولكن تبقى مسألة المعرفة السابقة للإسلام متوقعة لدى الأوس والخزرج قبل قدومهم إلى المدينة ومبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ج/- بيعة العقبة الأولى:

    في العام المقبل جاء وفد من يثرب يتكون من 12 رجلا[249] قابلوا الرسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فبايعوه، وكان الاالتزام بالدين هو أساس هذه البيعة أو ميثاقها الأساسي. 

        روى الطبري[250] لقاءهم بالرسول فقال: "فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم فلم تبقى در من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان العام المقبل، وفى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب، منهم:

من بني النجار أسعد بن زرارة وهو أبو أمامة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد.

ومن بني زريق بن عامر: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق.

ومن بني عوف الخزرج، ومن بن غنم بن عوف –وهم القواقل- : عبادة بن الصامت من الخزرج، وأبو عبد الرحمن، وهو يزيد بن ثعلبة بن غنم بن عوف من الخزرج، وأبو عبد الرحمان  وهو يزيد بن ثعلبة من بني غضينة من بلي، حليف لهم.

ومن بني سالمة، ثم من بني حرام: عقبة بن عامر.

ومن بني سواد: قطبة بن عامر بن حديدة.

وشهدها من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بني الأشهل: أبو هيثم بن التيهان، اسمه مالك، حليف لهم.

ومن بني عمرو بن عوف: عويم بن سعادة بن صلعجة، حلي لهم.

وقد ألزمهم الرسول ببعض الحدود التي تسمح بتكوين جماعة أو نواة أولى تعتمد على احترام الآخرين وحفظ حقوقهم، أو ترسيخ مبدأ الجماعة والأخلاق في التعامل والتفكير في الأطراف الآخين الذين نشاركهم نفس التفكير والحيز المكاني، كان عبادة بن الصامت ممن حضروا هذه البيعة، وبين لنا تفاصيلها فقال: "كنت يمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلًا، بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن ويتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئًا من ذلك فأخذتم بجده في الدنيا، فهو كارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله، إن شاء عبكم، وإن شاء غفر لكم"[251].

 وبعث النبي مصعب بن عمير معهم وكانت مهمته في الواجبات الدينية فقط، ولم يكلف تكليفا سياسيا، فهو أول سفير كلف بمهمة في الدولة[252].

د/- بيعة العقبة الثانية:

استغل بعض المسلمين من الأوس والخزرج الحج، فجاؤوا مع قومهم لكنهم خططوا للالتقاء، برسول الله عليه السلام، خلال أيام التشريق سرا، دون أن يعلم بهم أحد، وكان الاجتماع ليلا في "شعب العقبة" وكان العدد (70) رجلاً وامرأتين[253]، روى عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه –وكان ممن شهدوا البيعة-: "فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلا، ومعهم امرأتان من نسائهم: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء عمرو بن عدي، إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع، فاجتمعنا بالشعب: ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم"[254]؛ وحضر مع رسول الله عمه العباس، وتكلم أولاً فبين أن رسول الله بين أهله وهم يحفظونه، ويمنعون اعتداء أحد عليه، فإن كان الحاضرون مستعدين لمثل ذلك فمرحبا، وإلا فدعوه من الآن، فإنه في عزة ومنعة من قومه[255].

 وفي هذا السياق أكمل عبد الله: "حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلس كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج – وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الانصار الخزرج، خزرجها وأوسها -: إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.

قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك وربك ما أحببت.

قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم".

قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر..."[256]

وتعد هذه البيعة هي الميثاق الأول بين الأوس والخزرج والرسول صلى الله عليه وسلم وسموا بذلك الأنصار، وعلى أساسها نضجت فكرة التأسيس للدعوة خارج ديار مكة وبعيدا عن سلطة قريش.

ويبدو أن المبايعين انتبهوا إلى عواقب نصرة الدعوة الجديدة، فقاموا لتأكيد تحملهم مشاقها واستعدادهم للتضحية بالأموال والشرف والأنفس، وجاء في ذلك:

"...أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، ثم أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الاحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، واشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه، على نهكة الأموال، وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة من الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: "الجنة"، قالوا: أبسط يدك، فبسط يده فبايعوه"[257].

     في هذا النص إدراك واضح من طرف الأنصار أن مسألة البيعة تنجر عنها مسائل سياسية وحربية قد تؤدي إلى ضياع الأموال والأنفس، وفقدان الأشراف من جراء معاداة القبائل، وفيه استعداد واضح لقبول هذه التجربة الدينية والسياسية[258] وتبنيها والتضحية من أجلها، وهو سبب رئيسي ومفصلي في تأسيس دولة المدينة بقيادة الرسول واستنادا إلى قانون يحكم الفرد والجماعة مستمد من الأحكام الشرعية المنزلة على الرسول قرآنا وأحاديث.

إذن هذا أول عمل يحمل تعهدًا سياسيًا من الرسول عليه السلام ومن الأنصار، وقد وفى كلا الطرفين بما تعهد، فالأنصار راحوا ينشرون الإسلام، ولما هاجر إليهم رسول الله، أقاموا الدولة، وقاتلوا اليهود والعرب، حتى أذن الله بانتشار دينه، ولحقت الهزيمة باليهود وقريش فأسلم العرب[259].

ه/- الدلالات السياسية والعسكرية للبيعة:

      وردت دلالات متعددة أو آثار في سيرورة الدولة والتزام الأنصار بمساندة الدين الجديد والدولة الجديدة، أو بصياغة أفضل الأمة الجديدة نذكر منها[260]:

-غزوة بدر: أثبت الأنصار ولاءهم للرسول صلى الله عليه وسلم حين إلتفت إليهم طالبا رأيهم فيها، مستحضرا نص البيعة التي جمعته بهم في العقبة، فهم حين بايعوه، قالوا له: "إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا"، فخشي النبي أن يمتنعوا عن الخروج معه لملاقاة قريش في بدر، وذلك لكون البيعة تشترط على الأنصار نصرة الرسول على من دهمه في المدينة، فعمد إلى مشاورتهم.

- الوعي السياسي: البيعة مؤشر من بين مجموع على انتقال "الإيمان" من مجرد قضية قلبية وتصرفات تعبدية تهم نفس المؤمن، إلى قضية سياسية تاريخية تترتب عنها التزامات تجاه جماعة المؤمنين، وتراعي مصالح الدعوة والمجتمع الجديد. وقد ظهر هذا الانتقال بشكل كثيف وقوي في المدينة، فالقرآن المكي لم يخاطب المؤمنين بشكل صريح، ومعظم نداءاته كانت بلفظ "يا أيها الناس"، كما أنه لم يفرض عليهم فرائض وحدودا، خلافا للقرآن المدني الذي تغْلب على نداءاته عبارة "يا أيها المؤمنون". وقال بعض المتقدمين في هذا المعنى مشيرا إلى الطريق القياسي (العقلي) لتمييز المكي من المدني: "وكل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية".

- تجسيد مفهوم الجماعة والأمة: الشروط التي انعقدت بها أول الأمر في مكة قبل حدث الهجرة، فقد اشترطت على المؤمنين الجدد من الأنصار شروطا "سياسية" مرتبطة بالحياة الجماعية، قبل أن يقرها القرآن الكريم، ولم تكتف بشرط التوحيد والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

- تجسيد سلطة الحاكم ونصرته: إن البيعة بصيغها المختلفة في العقبة الأولى، والثانية، وفي الحديبية (بيعة الرضوان)، وبعد فتح مكة، كشفت عن وظيفة أخرى من وظائف الرسول هي وظيفة الإمامة السياسية، فالبيعة الأولى اقتصرت تكاليفها على الوحدانية وتطبيق الشريعة (عدم السرقة والزنى وقتل الأولاد)، بينما غلبت على الثانية الهواجس الأمنية، إذ كانت قبيل الهجرة النبوية إلى يثرب، فقد ألزمت الانصار بالنصرة والنفقة. أما بيعة الرضوان في الحديبية، فألزمت الرجال بالقتال والصمود، والنساء بالعفاف وعدم السرقة. وبعد فتح مكة استقرت صيغة البيعة على ثلاثة شروط: الإسلام والجهاد والخير، روى مسلم في صحيحه أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئت بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت يا رسول الله بايعه على الهجرة، قال: "قد مضت الهجرة بأهلها"، قلت بأي شيء تبايعه قال: "على الإسلام والجهاد والخير".

- المشروعية السياسية: البيعة في السياق القرآني وتجربة الرسول التاريخية آلية منهجية وإجرائية، تشكّلت عبرها الجماعة الإسلامية ككيان سياسي، واستمد منها الرسول جزءا من مشروعيته السياسية. ومن أهم ما تتميز به هذه الأداة مقارنة بغيرها هو استنادها إلى مبدأ التعاقد الذي جعل طرفي العلاقة أحرارا في القبول والرفض مبدئيا، ثم أتاح لهم إمكانية التفاوض على الشروط، وهو ما جعلها علاقة تبادلية فيها حظ الرئيس وحظ المرؤوس. وتتجلى هذه الخصائص بوضوح من خلال ملابسات وحيثيات التجربة النبوية، أكان في بيعة العقبة الاولى والثانية، أم في بيعة الحديبية، أم في غيرها من الأمثلة.      

        في الأخير يمكن اعتبار الهجرة[261] إلى يثرب ميلاد الدولة الإسلامية النبوية، ونقطة تحول في جمع مرتكزات قامت عليها أسس لتشكل الأمة في إقليم واحد تربطه مقومات تعبر عن تشكل أولي للوعي السياسي وآليات تنفيذه على عدة مراحل. 

5/-حكومة النبي صلى الله عليه وسلم وتأسيس الدولة الإسلامية:

     تم بناء الدولة على عدة مراحل معتمدة على عدة مرتكزات منها: السيادة العليا للإله، والحضور الكاريزمائي للنبي، وإقامة جماعة متضامنة أو أمة، ووجود تشريع أخذ طريقه للتطبيق والتنفيذ، وظهور منظومة شعائرية موحدة، وقد تم ذلك وفقا لميلاد هذه الدولة بعد بيعة العقبة التي تضمنت النصرة والقتال إن استلزم الأمر، وكانت معركة بدر الفاصل الذي عبر عن استكمال مرتع القوة مع باقي المرتكزات، ثم أخذت الدولة الناشئة مكانتها بعد غزوة الخندق[262].

هاجر المسلمون إلى المدينة فرادى، وعدد المسلمين يزداد بين الأنصار، حتى لم يبق بيت لم يدخله الإسلام، عند ذلك هاجر رسول الله عليه السلام، وبعد وصوله المدينة سارع إلى عمل ثلاثة أشياء[263] تعد المعالم الأساسية للدولة الجديدة:

1. بناء مسجد.
2. المآخاة بين المهاجرين والأنصار.
3. عقد معاهدة لتنظيم العلاقات بين المسلمين واليهود.

ومعلوم أن المسجد للعبادة والاستماع للخطب النبوية والتوجيهات، وأما المآخاة فعمل اجتماعي، يستهدف رص الصفوف، وأن يقوم الأنصار بالتكافل مع المهاجرين الذين تركوا أموالهم وهاجروا بدينهم، والمعاهدة مع اليهود، ويطلق عليها البعض "دستور المدينة" تنظم العلاقة بين المهاجرين والأنصار، وبين المسلمين واليهود، وفي المدينة توالت التشريعات، وأقيمت الحكومة الإسلامية، وصار رسول الله هو الحاكم في المدينة، وقد وقع اليهود معه المعاهدة بصفته رسول الله، وأن المسلمين أمة، ومن يخرج على المعاهدة، فمن حق الطرف الآخر أن يفعل فيه ما يشاء[264].

أ/- معالم الدولة الإسلامية النبوية:

تكفل الرسول صلى الله عليه وسلم بمسؤوليات تنظيمية: دينية وسياسية وإدارية تعبر عن حسن التدبير وإمكانيات القيادة، وإن  كانت في البداية تبدو عفوية وبسيطة لكنها، عميقة تحمل في طياتها برنامجا شاملا للتغيير، كان يقوم بجملة أعمال في وقت واحد، من ذلك[265]:

1. تلقي الوحي، وتبليغه للناس، والإشراف على التطبيق ودعوة الناس للإسلام.
2. كان حاكم دولة يتولى مراسلة الملوك، وقيادة الجيوش، وعقد المعاهدات، وتنفيذ العقوبات، وجمع الأموال وإنفاقها، والفصل في الخصومات، وتعيين القضاة والولاة، وهذه هي واجبات الحاكم حتى اليوم.
3. كان يتولى القضاء والفصل في الدعاوي، وتعيين القضاة لذلك، كما كان يشرف على تنفيذ الأحكام.
4. كان يربي المسلمين ويوجههم، وكان القدوة لهم.
5. كان يقوم بتفصيل بعض الأحكام التي جاءت مجملة في كتاب الله، مثل أوقات الصلوات وعدد الركعات، وما يتلى فيها، ومتى تصح ومتى تبطل إلى غير ذلك.

وحين تُوُفّيَ عليه السلام توجه الصحابة فورا، لاختيار خليفة له، يرعى تطبيق الشريعة، ويدير شؤون الدولة، ويرعى مصالح الأمة.

      ويمكن التفصيل في المعالم التي طبعت الدولة النبوية في المدينة كالآتي:

بناء المسجد: اشترى النبي صلى الله عليه وسلم مكان المسجد واشترك مع الصحابة في بنائه، هذا المنطلق أعطى أهمية واسعة للمسجد ورمزية دينية وسياسية وإدارية ستتجسد إلى غاية نهاية الحكم الراشدي[266].

    مثل المسجد مركز إدارة الدولة الإسلامية بالإضافة إلى دوره الديني، فيه يتدارس مع المسلمين الأمور الطارئة، ويتخذ القرارات المناسبة، وكانا مقرا للشورى إذ يجتمع الناس في المسجد فيستشيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضايا التي تستجد على الساحة، إذ أن استشار المسلمين في أحد والخندق تمت به، وكان دارا للقضاء وفض النزاعات ومنبرا لإصدار الأحكام، ومنه تنطلق الجيوش وتستقبل الوفود، ومنه ينطلق الرسل إلى الملوك، ومقر انطلاق ورجوع جباة الضرائب، وكان دار ندوة للجماعة الإسلامية التي تبحث فيها جميع شؤونها ولموظفي الإدارة العامة، فضلا عن كونه مجلسا لكتاب الوحي[267].

    لقد كان بناء المسجد خطوة تنظيمية مهمة قدمت على غيرها من خطوات الإدارة، ومن خلال الصلاة بروحها الجماعية استطاع الإسلام أن يصل إلى درجة كبيرة من إذابة روح العصبية القبلية وربط الناس بالمبدأ الجديد وفق أحكام جديدة تقوم على العقيدة والأخوة لا على رابطة الدم والقرابة[268].

المؤاخاة بين المؤمنين:

        إن الإجراء الإداري الذي أخذ أهمية في تفكير الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإخاء أو المؤاخاة بين المؤمنين، روى ابن اسحاق ذلك قائلا: "وآخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال...: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب وقال هذا أخي..."[269]َقال تعالى:﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الحشر/9، وقد قدم الأنصار للمهاجرين أكثر مما توقعوه واقترحوا قسمة النخيل فيما بينهم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتمر، وجاءت الروايات للدلالة على عمل المهاجرين في أجنة النصار مقابل أجور معينة أو عن طريق المزارعة[270]؛ وكانت هذه الخطوة ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي الأول الذي سينبثق منه ما يوافق حاليا مصطلح "الشعب" بحيث يمثل العنصر البشري قاعدة هرمية لتأسي الدولة وثباتها.

إن مهمة بناء الدولة على مبدأ التكامل الروحي والتكافل الاجتماعي والانتماء السياسي تقوم على العلاقة الروحية التي يغلفها عامل الدين والانتماء إلى لغة القرآن، فالعلاقة التي تربط أجزاء الأمة هي أساسا معنوية قوامها الانتماء الذاتي، لذلك عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تشكيل نواة للأمة من كتلة مشتتة فهناك المهاجرون وهناك الأنصار بينهما هوة ناشئة من اختلاف البيئة بينهما، بالإضافة إلى الفوارق الاجتماعية التي كانت تميز بين المهاجرين[271].

تنظيم سوق للمسلمين:

أولى الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية بالغة للسوق باعتباره عصب المدينة، خاصة أنه كان في بلد تجارة، ويدرك تماما أهميته بالنسبة لكسب السلطة والقوة بين قبائل المنطقة، ولما كانت قبائل اليهود تحتكر التجارة والأسواق أشهرها سوق بني قينقاع وكان هذا السوق هو السوق الرئيسي للمدينة، فكر في إنشاء سوق موازي بالمدينة؛ يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أكبر سوق لليهود ألقى عليه نظرة فاحصة، ثم بحث عن مكان آخر ي المدينة يعدل هذا السوق أو يفوته في المساحة والمركز والنظام، فقد روي ابن ماجة (ت275ه): "أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت موضعً للسوق أفلا تنظر إليه؟ قال: بلى، فقام معه حتى  جاء موضع السوق، فلما رآه أعجبه وركض برجليه، وقال: «نعم سوقكم هذا فلا ينقض ولا يُضربن عليكم خراج»"، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم "ذهب ابتداءً إلى سوق البنك، فنظر إليه فقال: «ليس لكم هذا بسوق» ثم رجع إلى هذه السوق فطاف بها ثم قال: «هذا سوقكم»[272].

ويلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراقب الأسواق بنفسه وقد لب بعض الصحابة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسعر للناس، ولكن الرسول امتنع عن ذلك، واستطاع المسلمون بحسن تعاملهم أن يحولوا الناس من سوق اليهود إلى سوقهم مما جعل كعب بن الأشرف اليهودي (ت3ه) يدخل إلى سوق المسلمين ويقطع أطنابها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا جرم لأنقلنها إلى موضع هو أغيظ له من هذا» فنقلها من موضع  بقيع الزبير إلى سوق المدينة، لقد كان هذا التصرف من كعب -وهو من يعود قينقاع- حافزًا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يفكر جديا بطرد اليهود من المدينة، وكان بنو قينقاع أول من طرد وبعدها استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك بزمام الاقتصاد المدني ويوجهه الوجهة الإسلامية الخالية من كل استغلال وشجع[273].

دستور المدينة:

تعد هذه الوثيقة من أهم الإجراءات السياسية والإدارية التي قام بها النبي في تنظيم شؤون الحياة بالمدينة بعد أن لقي هو والمهاجرون مكانا له بين الأنصار، وهي سابقة دستورية في اٌسلام، وتدل بوضوح على أن الإسلام يحوي حضارة راقية المستوى، فقد أنشأ دولته دستورية يعرف رعاياها من أول لحظة ما لهم من حقوق، وما عليهم من التزامات، وقد ادعى بعض المستشرقين أن هذه الوثيقة في الأصل عدة وثائق كتبت في أزمنة مختلفة معللين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بإمكانه كتابتها بما تحويه من أحكام مرة واحدة[274].

     وردت عدة اسماء لهذا الدستور في النصوص الإخبارية منها: الصحيفة، الكتاب، الوثيقة أما الدستور فقد أطلقه المفكرون المسلمين كتعبير ومقارنة بالأنظمة السياسية والإدارية الحديثة[275].

نص وثيقة دستور المدينة [276]

(أسماء الوثيقة: الكتاب – الصحيفة – الوثيقة -  الدستور – الموادعة – المعاهدة)

قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.

بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم

• إنهم أمة واحدة من دون الناس
• المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين
• وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
• وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
• وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
• وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
• وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
• وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
• وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
• وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
• وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
• وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه
•  وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم
• ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافرا على مؤمن
• وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس
• وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم
• وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم
• وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا
• وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دمائهم في سبيل الله
• وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه
• وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن
• وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول وإن المؤمنين عليه كافة
• وأنه لا يحل لهم إلا قيام عليه وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل
• وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم
• وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين
• وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته،
• وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف
• وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود  بني عوف ساعدة مثل ما ليهود بني عوف
• وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف
• وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم واثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته
• وإن لبني جفنه بطن من ثعلبة كأنفسهم
• وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم
• وإن موالي ثعلبة كأنفسهم
• وإن بطانة يهود كأنفسهم وإنه لا يخرج منهم إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم
• وإنه لا ينحجز على نار جرح وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم وإن الله على أبر هذا
• وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بيتهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. 

• وأنه لا يأثم امرئ بحليفه، وان النصر للمظلوم.
• وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
• وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
• وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
• وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
• وأنه ما كان بين اهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإنّ مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرء.
• وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
• وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
• وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فغنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
• على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
• وأن يهود الأوس مواليهم وانفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من اهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه وان الله على اصدق ما في هذه الصحيفة وأبرء.
• وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وانه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وان الله جار لمن برّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الدلالات السياسية والإدارية لصحيفة المدينة:

     تضمنت الوثيقة وأعلنت عن مجموعة من المبادئ والالتزامات التي قدمت لنا دلالات بعيدة المدى لتشكل الوعي السياسي تنفيذه على مستوى وجود الرسول والمهاجرين في المدينة إلى جانب الأنصار، نذكر منها[277]:

-أعلنت الوثيقة أن الأمة الإسلامية المتشكلة مجتمع سياسي منفتح لجميع الراغبين في الالتزام بمبادئه وقيمه، والنهوض بتبعاته، وليس مجتمعًا منغلقًا تقتصر عضويته والتمتع بحقوقه وضماناته على فئة مختارة.

- أي جماعة واحدة مكتملة، ومفهوم الأمة هنا أوسع من مفهومها في الجاهلية التي تعني الجماعة الصغيرة المتمثلة في العشيرة وإن اتسعت فالقبيلة، أما في الإسلام فالأمة تشمل جميع أبناء العقيدة، وتتميز هذه الأمة بالعدالة والمساواة فيما بينها.

- أدى انضواء الأفراد والجماعات في نطاق النظام السياسي الجديد إلى اعتماد الأمة، والرابطة الأمتية، إطارًا عامًا، يحدد سلوك الأفراد واتجاهات الفعل السياسي ضمن المجتمع الجديد، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه، بالبنى الاجتماعية والسياسية السابقة، فقد نجم عن بروز الأمة الإسلامية في المدينة اختزال القيمة السياسية للرابطة القبلية دون إلغائها، فتحولت الرابطة القبلية من رابطة سياسية رئيسية وآصرة عليا لا ينازعها أي نوع من الروابط الأخرى، إلى رابطة ثانوية خاضعة في القيمة والاعتبار لرابطة رئيسية عليا هي رابطة العقيدة المحددة لإطار الأمة. فكما أعلنت الوثيقة أن المجتمع السياسي الناشئ "أمة واحدة من دون الناس"، أقرت التقسيمات القبلية، بعد أن فرغتها من الروح القبلية المتمثلة بشعار "أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، وأخضعتها لمبادئ الحق والعدل العليا، لذلك أعلنت الصحيفة أم المهاجرين من قريش، وبني ساعدة وبني الحارث وبني الأوس، وبقية القبائل المقيمة بالمدينة "على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهو يفدون عانيهم.

- ضرورة الانتماء للجماعة الإسلامية، وترك العصبية، وأن الفرد جزء من عشيرته، فكل عشيرة كما هو عند العرب تتعاون على الديات والمغارم.

- أن المجتمع الإسلامي توسع مسطحًا وعمقًا، حيث دخل الناس في دين الله أفواجًا جماعات وأقطارًا وأفرادًا، ، لا ننكر أن ظهور صيغ للتعامل مع الغير في التاريخ العربي الإسلامي، كما يتضح من صيغة دمج الصائبة والمجوس والبربر، ومعاملة أهل الكتاب، في حين أن النص القرآني لم يتكلم عن أهل الكتاب إلا بالنسبة لليهود والنصارى.

- الالتحاق بالنظام وذلك عبر المساهمة العملية والجهاد لتحقيق المقاصد والأهداف الإسلامية. فالاتباع واللحاق والجهاد هي الضوابط التي تحدد العضوية في الأمة كما تبين الفقرة الأولى من الصحيفة: "هذا كتاب من محمد النبي، صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم".

- إن تجربة المؤاخاة هي تجربة أخلاقية اعتمدت التقدم أساسًا للاستقرار، لذلك فقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه ضرورة تلطيف حدة هذه التجربة، وترويضها وإعطائها جرعة من الواقع من خلال تجربة الصحيفة السياسية التي اعتمدت التقدم أساسًا للاستقرار.

- أكدت الصحيفة أن السلوك الاجتماعي والسياسي في النظام الجديد يجب أن يخضع إلى منظومة من القيم الكلية والمبادئ المعيارية، التي يتساوى أمامها الجميع، فالسيادة في المجتمع ليست لإرادة أفراد وجماعات خاصة، ولكن للشريعة والقانون القائمين على أساس القسط والخير، الكفيلين بحفظ كرامة جميع أفراد الجماعة السياسية، والحقيقة البادية للعيان في بنود الصحيفة هي تأكيد الصحيفة المتتابع والمتكرر لمبدئية العدل والقسط والمعروف والخير، وإنكارها، بعبارات شتى، الظلم والعدوان، منها: "وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين"، ومنها أيضا: "وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم".

- أعلنت الوثيقة عددا من الحقوق السياسية التي يتمتع بها أفراد المجتمع السياسي الإسلامي، المسلمين منهم وغير المسلمين، مثل حق المظلوم على المجتمع بالنصرة واسترداد مظلمته: "أن النصرة للمظلوم"، والمسؤولية الشخصية للأفراد، وعدم جواز اخذ البريء بذنب المتهم: "لا يأثم امرؤ بحليفه"، وحرية الاعتقاد: "إن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"؛ وحرية الانتقال من وإلى المدينة دون التعرض لموانع وعقبات: "وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو إثم.

- تتجلى وحدة الأمة وتكتلها والروح الجماعية في وجوب الاشتراك في صيانة الأمن الداخلي والتعاون بين المسلمين، فقد نصت على أن: «المؤمنين المتقيين أيديهم على كل من بغى، أو ابتغى ظلمًا أو إثمًا أو عدوانًا أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم "وإنه" لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا أو يأويه، وأن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل"»؛ والنص يشهد أنه لم تكن هناك شرطة   لهذا الأمن أو سجون، وإنما كان واجبًا على كل عشيرة أن تكف من يخرج منها على هذا الأمن بالمعروف، فلم يتطلب الحال قيام شرطة أو مسؤول عن الأمن.

- من الضروري لكل دولة أن يكون لها جيش أو قوة تحميها وتحفظ استقرارها وأمنها الداخلي والخارجي، وقد تناولت الصحيفة أمر الدفاع والأمن العام للدولة، وكان من الضروري أن يشمل هذا الأمر جميع سكان المدينة من اليهود وغيرهم، فالجهاد والدفاع واجب على جميع المسلمين.

- لنظرية أهل الذمة التي تبلورت في العصرين الأموي والعباسي، والتي لا ترقى إلى مستوى صيغة الصحيفة بالنسبة  للمشاركة، ولكن صيغة الدمج، هي التي سيرت على العقل الإسلامي سواء بالنسبة للغير أم بالنسبة للمسلمين، لاسيما بظهور نظام السلطة العضوض، وبذلك نسفت نهائيًا تجربة الصحيفة، وتناستها النفوس، ولم يبق منها إلا الأصداء خافتة في بعض الكتب الصفراء، والمطلوب هو الفكر السياسي الإسلامي إحياء قيم هذه التجربة الفذة في مشروعنا النهضوي، وغرسها في وعينا وثقافتنا الوطنية والقومية من أجل بناء وتأسيس مجتمع مدني، مجتمع الخيارات والتنوع والحراك الاجتماعي والمشاركة والمواطنة الحقة، بحيث تتفتح كل زهرة، وليتنافس المتنافسون من أجل هذه الأمة.

- تبنّى النظام السياسي الإسلامي مبدأ التسامح الديني المبني على حرية اعتقاد أفراد المجتمع، فأعطى اليهود الحق في إتباع أحكام دينهم، مؤكدا حق الجميع، مسلمين وغير مسلمين، في العمل بالمبادئ والأحكام التي آمنوا بها، وأكدت الوثيقة مبدئية التعاون بين المسلمين واليهود في إقامة العدل والدفاع عن المدينة ضد العدوان الخارجي: "وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

- تضمنت الصحيفة أمر السلطة التشريعية والسلطة القضائية، أيضا بجانب السلطة التنفيذية التي باشرها الرسول صلى الله عليه وسلم بمساعدة كبار الصحابة رضوان الله عليهم، وكبار العشائر من السادة والأشراف والعرفاء.

- الله تعالى صاحب الشرع، وقد أمره أن يحكم بين جميع من تحاكموا إليه بحكم الله تعالى، وأطلق على ما عداه "حُكْمَ الجَاهِلية"، ونفى الإيمان عن كل من لم يرضى بحكم الله المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم الله تعالى يقصد به "الأحكام الشرعية" من الكتاب والسنة، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأصبح الأمر شورى بين أهل العلم. وقد نصت الصحيفة على ذلك: «إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله تعالى، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله»، وهذا بند ينص على أن سلطة التشريع لله تعالى الحاكم الأعلى للكون، والوحي المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

- أن الصحيفة –وهي التعبير عن إرادة مدنية سياسية بشرية- أصدرت أحكامًا تشريعية واضحة كالمعاقلة وفداء الأسرى، لا بل إنها في ذاتها عمل تشريعي دستوري قام على الإرادة الإنسانية.

- أوجد هذا البند سلطة قضائية مركزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته نبيًا ورسولا من ربه مبلغًا حكمه، بجانب سلطته التنفيذية، لأنه لا شورى في الحكم الشرعي في حضور الوحي الإلهي.

- الوثيقة عمل سياسي انطوى على بعض المعايير الأخلاقية، وبذلك يتهافت الحل العلماني العربي الذي يدعي أن الدين الإسلامي مطلق خير، وأنه ليس هناك ارتباط مفهومي عقيدي بين الإسلام والسياسة، بل إن هذا الارتباط تاريخي عرضي فرضه انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

- لقد قطعت الصحيفة أشواطًا واسعة في طريق الحقوق الشخصية والحريات العامة، إضافة إلى مبادئ الحكم وأصوله، وقد نظمت الصحيفة الحقوق الآتية:

• الحقوق الاجتماعية.
• حق الملكية.
• الحريات المعنوية (الدينية).
• حق الأمن.
• حق التنقل.
• الحقوق السياسية.

أما لجهة أصول الدين، فقد تحدثت عن الأصول الآتية:

• أصل العدل.
• أصل الشورى.
• أصل الحرية.
• أصل التضامن.

ب/- أركان الدولة الإسلامية الأولى:

     مع تطور الأحداث وتمسك المجتمع الجديد بالمدينة، واكتساب السلطة والقوة العسكرية، توفرت الأركان[278] الأساسية لقيام واستمرارية الدولة:

1. الإقليم: من جملة المواضيع التي تناولتها الصحيفة أركان الدولة، فقد حددت إقليمها الذي يتمثل في المدينة المنورة، وجعلت الدفاع عنه مسئولية جميع سكانها، إذ ينص البند رقم 37/أ على ما يلي: "وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة"، غير أنه بفضل الجهاد والفتوحات الإسلامية اتسعت تلك الرقعة، ولم يعد لها حدود بما أن الدين الذي قامت من أجله يعتبر رسالة لكل العالم.

2. الشعب: عددت الصحيفة مختلف الجماعات البشرية التي تكون نواة الدولة الإسلامية وهذا من البند الثالث حتى الحادي عشر، واعتبرتهم أمة واحدة: "أنهم أمة واحدة من دون الناس"، وعلى العموم ينقسم مواطني الدولة الإسلامية إلى أربع فئات هي:

أ. المسلمون: وهم كل من نطق بالشهادتين: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ويتشكلون من المهاجرين والأنصار، ومن دخل في الدين فيما بعد.

ب. أهل الذمة: يقصد بالذمة في اللغة الأمان والعد، وأهل الذمة هم المعاهدون من النصارى واليهود وغيرهم ممن يقيم في دار الإسلام، وعقد الذمة هو إقرار بعض الكفار عن كفرهم بشر بذل الجزية والتزام أحكام الملة مقابل إقامتهم في دار الإسلام، وعلى وجه الدوام.

ج-الموالي: وهم الذين يرتبطون مع القبائل الكبيرة بولاء أو رق أو غير ذلك من الأمور التي كان ينتج عنها الولاء في الجاهلية، فقد منح الإسلام لهؤلاء المستضعفين حقوقهم كمواطنين في الدولة الإسلامية، وعاملهم معاملة أسيادهم أو الذين ينتمون إليهم: "وأن موالي ثعلبة كأنفسهم".

د- المجاورون: وهم كل من يجاور الدولة الإسلامية، واعتبرت الصحيفة الجار كالنفس: "وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم".

هكذا كانت نواة الدولة الإسلامية الوليدة، إقليميا يتمثل في المدينة المنورة وما حولها، وشعبها مختلط بين المسلمين واليهود، وسلطة حاكمة آمرة يمتد سلطانها ليشمل كل أرجاء الإقليم، وكل أفراد الشعب فقد تولى الرسول عليه الصلاة والسلام هذه السلطة وباشرها بنفسه بتفويض إلهي: "وأطيعوا الله والرسول"، فنفذ الأحكام والقوانين الربانية وأرسل السرايا، وقاد الجيوش، وبعث السفراء والرسل. أما بعد موته فقد أضحى اختيار الحاكم مسؤولية جماعة المسلمين.

هذه الدولة ما لبثت أن بدأت تتطور شيئا فشيئا، وشعبها يزداد بدخول الناس إلى دين الله أفواجا، واتسع ليشمل كل الجزيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتطور دستورها وقانونها مع تتابع نزول الوحي، فنزل تجميع النصوص المتعلقة بالمعاملات وغالب العبادات.

ج/- الوظائف الحكومية في دولة الرسول صلى الله عليه وسلم:

أحصى الخزاعي[279] مختلف الوظائف الحكومية التي وجدت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ودولته، وقد قمت بتلخيصها كالآتي:

1/- الخلافة والوزارة وما يرتبط بهما:

• خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقد تولى هذا المنصب أبو بكر الصديق بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كتأكيد على ضرورة أن يكون للمسلمين حاكم يسوس أمرهم، وقد استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم  على إمامة الصلاة عند مرضه.
• الوزير: وهو عبارة عن رجل موثوق به في دينه وعقله، يشاوره الخليفة فيما يعن له من الأمور، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل، ووزيراي من أهل الأرض: أبو بكر وعمر".
• صاحب السر: حذيفة بن اليمان رضي الله عنه كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقربه منه، وثقته به، وعلو منزلته عنده.
• في الأذن والحاجب والبواب: كان آذنه أنس بن مالك، وكان بوابه رباح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• الخادم: من خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو حمزة، أنس بن مالك، هند وأسماء ابنتا حارثة الأسلميان، وربيعة بن كعب الأسلمي.

2/- العمالات الفقهية وأعمال العبادات وما يرتبط بها من عمالات المسجد والإمارة على الحج:

• معلم القرآن: عبادة بن الصامت الأنصاري السالمي شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يعلم أهل الصفة القرآن وهو أحد النقباء الإثني عشر، وقد بعث: مصعب بن عمير ومعاذ بن جبل وعمرو بن حزم إلى الجهات ليعلموا الناس القرآن.
• معلم الكتابة: عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم الكتاب بالمدينة، كما استخدم أسرى بدر لذلك، ومن النساء الشفاء أم سليمان بن أبي حثمة.
• المفقه في الدين: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الدين وقد جاءت بذلك آيات وأحاديث.
• المفتي: كان الناس يستفتون أهل العلم من الصحابة فيفتونهم، ويحتكم الناس ويسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المفتين: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب...
• الإمام في صلاة العيد: السلطان أحق بالإمامة إلا أن يأذن لغيره في ذلك.
• المؤذن: كان ل رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم.
• المسرج والموقد: وهو سراج مولى تميم الدراري كان يسرج مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقنديل والزيت.
• الإمارة على الحج: أول من أقام للمسلم عتاب بن أسيد سنة 8ه وأبو بكر سنة 9ه وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 10ه.
• حجابة البيت وهي العمارة والسدانة: تولاها عثمان بن أبي طلحة.
• السقاية: كانت قبل الإسلام بني عبد المطلب وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.

3/- في العمالات الكتابية وما يشبهها:

• كتاب الوحي: كان عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما يكتبان الوحي، فإن غابا كتب أبي بن كعب وزيد بن ثابت.
• كتاب الرسائل والإقطاع: كان زيد بن ثابت وأبي بن كعب يكتبان كتبه إلى الناس، وكان من المواضبين على كتابة الرسائل: عبد الله بن الأرقم الزهري.
• كتاب العهود والصلح: كان الكاتب لعهوده إذا عهد، وصلحه إذا صالح: علي بن أبي طالب.
• صاحب الختم: أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم، فقيل له: لن يقدروا كتابك إذا لم يكن مختوما، فاتخذ خاتما من فضة، ونقشه: محمد رسول الله، فكأنما أنظر إلى بياضه في يده"، وكان صاحب الخاتم معيقب بن أبي فاطمة الدوسي.
• الرسول: يبعث ليدعو إلى الإسلام، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا من أصحابه، وكتب معهم كتابا إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم.
• حامل الكتاب: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي.
• الترجمان: زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه كان يكتب للملوك ويجيب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية، تعلم ذلك بالمدينة من أهل الألسن.
• الشاعر: كان شعراء المسلمين حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب مالك.
• كاتب الجيش: روى البخاري بسنده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام من الناس" فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل، فقلنا نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟ فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف". وأثبتت روايات أخرى أن الناس كانوا يكتتبون في الغزوات.

6/- نظام الشورى                 

        أخذ موضوع الشورى اهتماما واسعا من طرف المفكرين المسلمين سواء منهم المتقدمين أو المحدثين، نظرا لعدم وضوح تطبيقاتها في تاريخ التجربة السياسية الإسلامية، لذلك تكونت لنا مادة هامة حول هذه المسألة سوف نحاول عرضها بما يتوافق مع حاجة الطالب والأهداف المسطرة في هذا المقياس.

1.6. تعريف الشورى:

أ. لغة:

ترد الشورى على أكثر من معنى لغة، كحسن الصورة والحسن في الدابة، كما يقال أشار الدابة يشورها شَوْرًا إذا عرضها، ويقال في الدابة أيضا: شارها يشورها شورًا، وشَوَّرها وأشارها: إذا راضها أو ركبها عند العرض على مشتريها، كما يقال أشار إليه وشوَّر: أومأ إليه، ويكون ذلك بالكف والعين والحاجب.

ويقال: شاورته في الأمر واستشرته بمعنى واحد.

وفلان خيرُ شَيّر، أي يصلح لمشاورة.

كما يقال: شاوره مشاورة وشوارًا واستشارة: إذا طلب منه المشورة، وأشار عليه بالرأي.

ويقال: فلان جيد المَشُورة والمَشْوَرَة: لغتان[280].

السياق اللغوي للشورى في السياق القرآني:

وردت مادة "شَوَر" أربع مرات في القرآن:

الأولى: "تشاوُرٌ" وهو مصدر الفعل الماضي "تشاور". قال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ [البقرة: 233][281].

الثانية: "شاورْ" وهو فعل الأمر من الماضي "شَاوَرَ"، قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 159].

الثالثة: "شورى" وهي مصدر الفعل الماضي "شار. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الشورى: 38]

الرابعة: "أشارت" حيث ذكر القرآن إشارة مريم إلى وليدها "عيسى" –عليه السلام- وكأنها تخبر قومها أن عنده جواب سؤاله مع تفسير ما حدث لها: ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾[مريم: 29][282].

ب. اصطلاحا:

قبل الخوض في تعريف الشورى نذكر أنها إلى قسمين أو نوعين:

1. شورى عامة غير ملزمة ويسميها "المشورة أو الاستشارة"، فمن شاور أخاه في أمر، فهذه مشورة أو استشارة، ولعل منها قوله تعالى: ﴿... فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233] فالتشاور هنا "حوار" بين طرفين قد ينتهي إلى نتيجة أو لا ينتهي.

2. شورى خاصة ملزمة، «إن هذه المصطلحات فد استعملت في كثير من الأحيان كما لو كانت مترادفات، وغالبًا ما تعتبر الشورى – بالمعنى العام- شاملة لكل صور المشورة والتشاور، ولذلك فإننا مضطرون إلى التفرقة بين الشورى بالمعنى الواسع، والذي يشمل كل تشاور وتبادل للرأي، وإن كان غير ملزم، ونسميها "المشورة أو الاستشارة" وتمييزه التي يقصد به القرار الملزم، الصادر عن الجماعة، ونسميها الشورى –بالمعنى الضيق- وحكم المشورة والاستشارة، يسري على النصيحة، وهي المشورة التطوعية، كما يسري على الفتوى، التي هي نوع من الاستشارة أو المشورة العلمية أو القانونية...»؛ والمعنى الاصطلاحي مطابق للمعنى اللغوي، لذا لم يوله العلماء كبير عناية[283].

وتعرف على أنها: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، والشورى الأمر الذي يتشاور فيه وهي استخلاص الصواب بطرح جملة من الآراء للخروج بأحسنها[284].

2.6. مشروعية الشورى وحكمها:

من القرآن الكريم:

ورد ذكر الشورى في آيتين من كتاب الله تعالى وهما:

﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[آل عمران: 159]

وقوله: ﴿... وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38].

         بينت سورة الشورى أهم صفات وخصائص المسلمين المميزة لهم.  قال تعالى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ

وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ

وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [الشورى: 36- 43].

أوردت هذه الآيات الثمان اثنتي عشرة صفة أساسية للمسلمين: هي: الإيمان، التوكل، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والمغفرة عند الغضب، والاستجابة لله، وإقامة الصلاة، والشورى الشاملة، والانفاق في سبيل الله مما رزق الله، والانتصار من البغي، والعفو، والإصلاح، والصبر[285].

         ورد الكلام عن الشورى بين المسلمين في الآيات السابقة بهذه العبارة ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾، وهذا يوحي بأن الشورى بينهم ليست خاصة في السياسة وشؤون الدولة ونظام الحكم، بل هي شاملة لكل ما يتعلق بأمور المسلمين ومجالات حياتهم: الفردية منها  والجماعية، والسياسية والاقتصادية والثقافية وغير ذلك، بل تتناول الشورى جزئية من جزئيات الأحوال الشخصية في الأسرة، وهي اتفاق الزوجين المتخاصمين على فطام طفلهما قبل نهاية السنتين – كما مرّ معنا من قبل[286]. 

        وعبرر القرآن عن صفة الشورى بين المسلمين بالجملة الاسمية ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ لثبات هذه الحقيقة ورسوخها واستقرارها وتأكيدها، لأن الجملة الاسمية توحي بهذه المعاني.

        وجاءت المجالات التي يتشاورون فيها بصيغة "أمرهم"، لتدل على شمولها، لكل أمر يهمّ المسلمين، وكل شأن يخصّهم، وكل مجال يلتفتون إليه.

وحول هذا المعنى يقول سيد قطب في تفسير هذه الآيات: "ومع أن هذه الآيات مكية، نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة، فإننا نجد فيها هذه الصفة، مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظامًا سياسيًا للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها، يقوم عليها  أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة، بوصفها إفرازًا طبيعيًا للجماعة[287].

من السنة النبوية:

وأما دليل الشورى في السنة فأحاديث النبي في ذلك كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: «استعينوا على أموركم بالمشاورة» وقوله: «ما استغنى مستبد برأيه وما هلك أحد عن مشورة»، وقوله: «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم».

         وسنة النبي الفعلية زاخرة بتطبيقات الشورى، من ذلك: الاستشارة في مكان النزول ببدر وأخذه برأي الحباب بن المنذر، ومنها مشاورته أصحابه في أسرى بدر وأخذه برأي أبي بكر الذي أشار بأخذ الفداء، ومنها الاستشارة في الخروج إلى أحد أو البقاء في المدينة وأخذه برأي الذين قالوا بالخروج، ومنها استشارة رؤساء الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في مصالحة بني غطفان على ثلث ثمار المدينة يوم الخندق على أن يرجعوا عن قتال المسلمين وأخذه برأي السعديين اللذين أشاروا بالقتال بدلًا من المصالحة. وكان يقول عليه الصلاة والسلام: «وأشيروا عليّ»[288].

         ونظرا لكثرة تطبيقات النبي الكريم للشورى في سُنته الفعلية فقد قال العلماء: «لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[289].

الإجماع:

         وأما الإجماع على وجوب الشورى فقد أجمع الصحابة ومن بعدهم من التابعين على وجوبها وعملوا بها فعلًا.

         عن ميمون بن مهران قال: «كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم... فإن لم يجد سُنة سنّها النبي جمع رؤساء الناس فاستشارهم وكان عمر يفعل ذلك».

         وهم إنما فعلوا ذلك اقتداء بالنبي الكريم الذي أمره القرآن بالمشاورة، ولم يعرف لهم في ذلك مخالف فيكون إجماعًا على وجوب المشاورة.

         وأول أمر خضع لوجوب المشاورة بعد وفاة رسول الله هو التشاور في إمارة المسلمين والبيعة لأبي بكر رضي الله عنه[290].

وقد نقل عن الصحابي أبي هريرة قوله «ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من النبي عليه السلام».

ويقول الحسن: «إن كان رسول الله عليه السلام لغنيًا عن مشاورتهم، وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده».

ويذكر ابن هشام في السيرة أن الخليفة الراشد عمر كان يردد «من بايع رجلًا عن غير مشورة من المسلمين، فإنه لا بيعة له، ولا الذي بايعه»، وقد استعرض ابن قدامة ما شاور فيه عليه السلام أصحابه، ثم الخلفاء من بعده[291].

قال الطبري في تفسير الآية: «إنما أمر الله تعالى نبيه بمشاورة أصحابه فيما حز به من أمر... تعريفا منه أمته مأتى الأمور التي تحزنهم من بعده ومطلبها ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاورون فيما بينهم»[292].

وقال الرازي في تفسير هذه الآية: «... قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك –أي أمر الله رسوله بالمشاورة- ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سُنّة في أُمته»[293].

قال الزمخشري: «فشاورهم في الأمر» أي في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي، لتستظهر برأيهم ولما فيه من تطيّب نفوسهم، والرفع من أقدارهم، وعن "الحسن" رضي الله عنه قال: «قد علم أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يَسْتنَّ به من بعده، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم»[294].

وذكر "فخر الدين الرازي": «أن الآية نزلت عقب هزيمو أحد، ورغم فساد رأي من أشار عليه بالخروج، وصواب رأيه، إلا أن الله أقر الشورى، وأكمرهم بملازمتها، وقد عرف عنهم ما وقعوا فيه من تقصير»، أي أن الأمر هو أمر بالاستمرار في مشاورتهم، على الرغم مما ظهر من خطأ رأيهم، وهذا يؤكد أهمية الشورى، ويبين مقدار عناية الدين بها، إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) شاورهم لا لأنه محتاج إلى آراء من يستشيرهم، ولكن لأجل أنه إذا شاور في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح، وبذلك تتآلف القلوب[295].

قال "القرطبي": «أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم) التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ماله في خاصته عليهم من تبعه، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلًا للاستشارة في الأمور»[296].

قال الإمام ابن تيمية: «لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى قد أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْلَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[297] وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم... فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالمشورة»[298]

وقال "ابن خويز منداد": «واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعملون، وفيما شكل عليهم من أمور الدين، ووجه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها»[299].

1. حكم الشورى:

        تقدم أن الشورى –بمعناها الضيق- ورد فيها آيتان: واحدة بصيغة الأمر، والثانية بصيغة الخبر، الذي معناه الأمر، وأن رسول الله عليه السلام كان يشاور أصحابه، وأن خلفاءه من بعده أخذوا بسنته فما هو حكم الشورى؟

        وقبل أن أجيب عن ذلك، أذكر أن العلماء يختلفون فيما يفيده الأمر بنفسه في اللغة، فهناك اتجاهان:

1. إن الأمر يفيد الوجوب بنفسه، دون الالأمر لا يحاجة إلى دليل أو قرينة، ولا يخرج عن ذلك إلا بدليل أو قرينة.
2. فيد الوجوب بنفسه، بل يحتاج إلى دليل أو قرينة تدل على ذلك.

من هنا رأينا العلماء يختلفون في كثير من الأوامر، وربما كان ابن حزم الظاهري يشكل فريقا مستقلا فكل أملا عنده يفيد الوجوب.

        بعد هذه –المقدمة- يمكن فهم سر الخلاف بين العلماء في حكم الشورى، مع وجود الأمر الصريح بها، ووجود آية خبرية ومعناها الأمر، ومع اشتهار السنة بها[300].

        وقد انقسم العلماء إلى فرقتين في حكم الشورى:

1. المجموعة الأولى: الشورى واجبة: لأن الله تعالى أمر بها قال بذلك الفخر الرازي والقرطبي وابن عطية والجصاص "وهو قول الجمهور".
2. المجموعة الثانية: الشورى مندوبة (الشافعي): وهؤلاء يحتجون بجملة حجج منها:

أ. أن الأمر في اللغة لا يفيد الوجوب، إلا إذا وجد دليل أو قرينة تدل على ذلك.

ب. جاء في الآية: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾ والعزم ق يكون على تركها.

جـ. أن الخليفة أبا بكر –رضي الله عنه- استشار الناس في حرب المرتدين، لكنه رفض ما أشاروا به عليه، ونفذ رأيه، فلو كانت الشورى واجبة لالتزم بها.

        ويمكن أن يجاب عن هذا، بأن النقاش استمر حتى اقتنع الصحابة برأي الخليفة، وهكذا حصل مع الخليفة عمر حين رفض توزيع أراضي العراق على الفاتحين، فقد استمر النقاش ستة أشهر حتى اقتنع الصحابة برأي الخليفة عمر.

        يطرح بعض المتأخرين حلًا وسطًا فيقولون: الاستشارة واجبة فلابد للحاكم أن يستشير، لكنه غير ملزم دائمًا بالأخذ بها، فإن وجد أن المصلحة تقتضي ذلك أخذ بها، وإلا تركها. وبعض النظم الوضعية في العالم تسير في هذا الاتجاه، ويمكن تنظيم العملية كأن تطرح –عند الاختلاف- على هيئة خاصة للبت في الأمر[301].

. أهمية الشورى وثمرتها:

 - الشورى في معظم الأمور يسيرة المنال عظيمة الفائدة فإن المستشار يقدم لك في لحظات خبرته وتجربته التي كسبها في سنوات.

- تحقق الشورى أربعة أمور أساسية[302]:

الأول: إشراك الأمة –ممثلة بأهل الحل والعقد- في مزاولة السلة والتفكير بقضايا الأمة مع الشخص الذي

 أنابته عنها

وهو الأمير.

والثاني: الحيلولة دون استبداد الحاكم أو طغيانه.

والثالث: تطييب نفوس المحكومين وتأليف قلوبهم بما يجمعها مع الحاكم برباط المودة والتعاون. ومودة

 الحاكم الحقيقية

والتعاون معه ضروري جدًا لنجاح الحكم وتقدم الأمة وتجنب الثورات.

والرابع: تجنب الخطأ في اتخاذ القرارات. لأن الأمة باعتبار مجموعها معصومة عن الخطأ كما هو مقرر في

 علم الأصول

 لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة»، لذلك كان استشارة الأمة –ممثلة في أهل

 الحل والعقد

– أمرًا لازمًا للوصول إلى الرأي الأمثل ويصل إلى القرار الأفضل[303].

-تتجلى أهمية الشورى في الإسلام. واهتمام القرآن بها، في تسمية إحدى سور القرآن بها، والعجيب أن سورة "الشورى" مكية، وأنها وصفت المسلمين بصفة مميزة لهم، وهي أن يكون لهم دولة ونظام حكم.

- ويبين ابن القيم فوائد الشورى الفقهية قائلاً: "من الفوائد الفقهية... استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه، استخراجاً لوجه الرأي، واستطابة لنفوسهم، وأمنا لعتبهم، وتعرفاً لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض، وامتثالاً لأمر الرب في قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾[304].

لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله أمر بها نبيه، فالقرآن أكد على مشروعية الشورى كواقع سياسي بين الإمام والمسلمين، والمسلمون مطالبون شرعاً بالتقيد بما جاء به الشرع.

4.6. موضوع الشورى:

ما هي الموضوعات التي تشملها الشورى، والتي لا تشملها؟

1. هناك موضوعات فيها نصوص قطعية، فلا تحتاج إلى مشاورة، فلا يقال مثلًا هل نُبيح الزنى أو شرب المسكرات، فهذه وأمثالها يحكمها النص، وليست هي ميدانًا للشورى.
2. هناك قضايا لا نص فيها، أو فيها نص لكنه غير قعي في ثبوته أو دلالته، فهنا ميدان الشورى، وقضايا السياسة العامة ضابطها المصلحة، ودفع المفسدة، وهذه فيها مجال للأخذ والرد، فهنا تكون الشورى لأصحاب الاختصاص، ولمن لهم معرفة بالقضية.

ويمكن أن يضاف لما تقدم أن الشو[305]رى ليست من مهامها تعيل نص أيضًا، ومتى أقرت الشورى ونضجت، فعلى المؤيد والمخالف الالتزام بها، بحيث لا يكون الخلاف مسوغًا للهروب من التطبيق، ولا لإعادة طرح القضية مرة بعد أخرى للتشاور، إلا إذا وجد سبب معقول لذلك، كتبدل الظرف، وذهاب الأسباب التي استوجبت ذلك.

إن أمور الأمة الكبرى –وما أكثرها اليوم- بحاجة ماسة إلى المشاورة والاستفتاء، وأن لا ينفرد بها شخص أو بضعة مستشارين[306].

5.6. أهل الشورى:

        الشورى مبدأ وليس طريقة، لقد جاء الإسلام بالشورى دون طلب من أحد، وجاءت مبدأ وليست طريقة، أي هدفا. أما الوسيلة فيحكمها الزمان والمكان، ومن هنا رأينا المرونة في التطبيق، فالخلفاء الراشدون الأربعة، كل واحد منهم وصل إلى الخلافة بطريقة تختلف عن سلفه ومن جاء بعده، فأبو بكر رضي الله عنه جرت له بيعة خاصة في سقيفة بني ساعدة، ثم أعقبها بيعة عامة في المسجد، وجاءت البيعة لعمر بعد مشاورات وعن طريق العهد، وحين عن الخليفة عمر، جعل الخلافة في ستة أنفار من الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فكان اختيار عثمان من بينهم بعد مشاورات، وحين استشهد الخليفة عثمان بايع المتمردون الإمام عليًا أولًا، ثم جرت بيعة عامة.

فالشورى مبدأ يقبل التبديل والتغيير، بما يبقي على الأصل والمبدأ، لذا يمكن أن تتطور مع الزمن وحاجات الناس، وهذا ما يطلب أساسًا في كل نظام سياسي، وإلا تجمد وصار غير صالح[307].

يقول د. الدريني: "لم يعين التشريع السياسي الإسلامي نظامًا محددًا للشورى السياسي الإسلامي، نظامًا محددًا للشورى السياسية، في انتخاب رئيس الدولة، وما رسمه الفقهاء المسلمون من أشكالها لها –أي للشورى- وطرائق تنفيذها، إنما كان بمحض الاجتهاد بالرأي.

لم يقيد التشريع الإسلامي "الشورى" بنظام محدد، بل أرساه مبدأ عامًا، وترك طرائق التنفيذ الاجتهاد، يستخلصها في ضوء الظروف التي يجري فيها تطبيقها"[308].

أما قاضي القضاة الماوردي  صاحب الأحكام السلطانية، وفارس هذا الميدان، فهو يرى أن البيعة يمكن أن تكون على أكثر من صورة:

1. من قبل رجال الدولة، وقادة الجيش، والزعماء والفقهاء، وأصحاب النفوذ في الأمة (وهذه الشورى الخاصة).
2. تكون البيعة عامة، حيث يبايع الناس، على قدر الاستطاعة، ولا يشترط مبايعة كل فرد.

ثم يتحدث عن معرفة الناس برأس الدولة فيقول: "إذا استقرت الخلافة لمن تقلدها، إما بعهد أو اختيار، لزم كافة الأمة أن يعرفوا إفضاء الخلافة إلى مستحقيها بصفاته، ولا يلزم أن يعرفوه بعينه واسمه، إلا أهل الاختيار الذين تقوم بهم الحجة، وببيعتهم تنعقد الخلافة".

أم إمام الحرمين الجويني –وهو معاصر للماوردي- فيذهب في كتابه القيم "غياث الأمم" إلى أنه يرى وينظر للنوع في اختيار الخليفة، وليس للعدد، فلو بايع ناس كثيرون، لكن لا شوكة لهم، فبيعتهم غير سليمة، ولو بايع قلة من وجوه القوم، وأصحاب القوة فبيعتهم صحيحة.

يقوم إمام الحرمين: "إن بايع رجل واحد مرموق، كثير الأتباع والأشياع، مطاع في قوم، وكانت بيعته تفيد ما أشرنا إليه، انعقدت الإمامة، وقد بايع رجال لا تفيد مبايعتهم شوكة، ومنة قهرية، فلست أرى للإمامة استقرارًا، والذي أجزته ليس شرط إجماع، ولا احتكامًا بعدد، ولا قطعًا بأن بيعة الواحدة كافية، وإنما المذاهب في ذلك... والذي ذكرته ينطبق على مقصد الإمامة وسرها، فإن الغرض حصول الطاعة..."[309].

إن القضية اجتهادية، وإن وجدت سوابق تاريخية فهي ليست حجة، الحجة للنص فقط، وما دام غير موجود –في التطبيق- فمن حقنا أن نعدل ونبدل، بشرط واحد هو البقاء على المبدأ، وعدم تجاوزه أو إسقاطه.

مرة أخيرة: الشورى عامة وخاصة، والخاصة عبارة عن مبدأ، والطريقة والوسيلة يحددها الزمان والمكان، وطبيعة المجتمع، والسوابق التاريخية ليست حجة لأحد، ولا على أحد.

وأختم ما تقدم بما نقل عن حبر الأمة، عبد الله بن عباس من قوله: "لما نزلت ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها –أي الشورى-، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها غيًا»[310].

6.6. صور ممارسة الشورى

        ليس لممارسة الشورى شكل ثابت محدد فالسوابق التي بين أيدينا من استشارات النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وكذلك ما فعله الصحابة في عصر الإسلام الأول تدل على أن الشورى أمكن تحقيقها بصور متعددة، فتارة استشار النبي المتبوعين  في الأمة، وأخرى استشار  الأمة بالجملة وعرض الأمر عليها، كما أن عصر الخلافة الراشدة شهد مجلسًا للشورى محدد الأعضاء، ولذلك سنتكلم عن كل صورة من هذه الصور في فرع مستقل[311].

1. استشارة المتبوعين في الأمة:

        قد أثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام استشار في واقعة الخندق المتبوعين في قومهم فقد استشار السعديين، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وهما سيد الأوس والخزرج، استشارهم في مصالحة بني غطفان على ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عن قتال المسلمين وأن يخذلوا بين الأحزاب، واعتبر استشارتهم تغني عن جمهور قومهم فقد أورد ابن هشام في السيرة النبوية أن النبي «بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما (أي موضوع المصالحة) واستشارهما فيه فقالا له: يا رسول الله أمر تحبه فنصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به؟ أم شيئًا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلّا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت وذاك»[312].

ومن هذا يتبين أن الني قد سن استشارة المتبوعين في قومهم وأخذ برأيهم.

        وفي عهد الخلافة الراشدة كان المستشارون أيضا المتبوعين في الأمة ورؤساء الناس، ذكر ذلك ابن القيم فقال: «كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم أو عرضت عليه مسألة نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله... فإن لم يجد سُنة سنّها النبي جمع (رؤساء الناس) فاستشارهم فإذا أجمع رأيهم على شيء قضى به وكان عمر يفعل ذلك».

        وجاء في الطبقات الكبرى: «إنا أبا بكر الصديق كان إذا نزل به أمر في يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه دعا رجلا من المهاجرين والأنصار، دعا عمر وعثمان وعليًا وعبد الرحمان بن عوف ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت ثم ولي عمر فكان يدعوا هؤلاء النفر ».

ومن هذا يبدوا أن الخلفاء الراشدين تابعوا النبي الكريم في مسألة استشارة المتبوعين في الأمة وتلك هي الصورة الأولى من صور ممارسة الشورى[313].

2. عرض الأمر على الشعب لمعرفة رأيه:

        وتلك هي الصورة الأخرى لممارسة الشورى، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف متعددة، منها ما حصل في غنائم هوازن) حيث أصاب المسلمون يومئذ ستة آلاف من السبي فجاء أهلوهم مسلمين يطالبون بأبنائهم ونسائهم وبين أموالهم وعرض موضوع التخيير على جمهور المسلمين ليستطلع رأيهم فيه فقال: «إن هؤلاء قد جاؤوا مسلمين وإنَّا قد خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان عنده شيء فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن لا فليعطينا وليكن قرضًا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا يا نبي الله قد رضينا وسلمنا قال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم يرفعون ذلك إلينا. فرفعت إليه العرفاء: أن قد رضوا وسلموا».

وواضح من عبارة النبي الكريم «إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفائكم يرفعون ذلك إلينا» أنه قصد عرض الأمر عليهم ومعرفة آرائهم جميعا ولم يكتفي بآراء ممثليهم أو أهل الحل والعقد فيهم.

        ومن السوابق أيضا في استشارة النبي لجمهور المسلمين استشارته لهم في موقعة أحد في مسألة الخروج إلى خارج المدينة للقتال أو البقاء في المدينة.

        ومنها أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد قتال قريش عندما احتسبت مبعوثه إليهم عثمان رضي الله عنه عام الحديبية وبلغ المسلمين أن قريشًا قتلته، عرض قراره في القتال على الأمة فيما يشبه استفتاء، وقد كانت النتيجة أن الجميع أبدوا رأيهم بالموافقة على قرار القتال والاستعداد لتنفيذه وذلك بأسلوب البيعة على ذلك وقد بايع الجميع واحدا واحدا ولم يختلف عن الموافقة والبيعة إلا واحد فقطط هو الجد بن قيس[314].

ومنها أيضا ما فعله أبو بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أريد اختيار إمام للمسلمين حيث قال: «... وإن محمدًا قد مضى بسبيله ولا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم»[315].

3. إنشاء مجلس محدد للشورى:

        ليس في النظام الإسلامي ما يمنع من تشكيل مجلس محدد الأعضاء يضم أهل الشورى، أما تحديد عدد أعضائه فإن مرده إلى الحاجة وسعة الأمة وكثرة أفرادها أو قتلهم.

        وقد شهد العصر الأول للإسلام مجلسًا للشورى محدد الأعضاء، سماهم العلماء بأهل الشورى، وهو المجلس الذي تشكل في عهد عمر رضي الله عنه من علي وعثمان وعبد الرحمان بن الزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ليقوم باختيار أمير من بينهم نيابة عن الأمة ولم يعترض أحد من أفراد الأمة على تمثيلهم.

        هذا المجلس كان يحتوي عل مبدأ التحديد والتعيين لعدد أعضائه، وأيضا كان يحتوي على طريقة عد الأصوات في داخل المجلس إذا اختلفت الآراء كما سنوضح ذلك عند البحث في مسألة الأكثرية والأقلية في مجلس الشورى في مبحث قادم.

        إذن فإن من الجائز شرعًا أن يتشكل المجلس من أعضاء محددين على أن تتوفر فيهم الشروط التي ذكرها العلماء في عضو مجلس الشورى[316].

ملاحق:

ملحق رقم 1:بيان جنس الإمام وقبيلته[317]

         اختلفوا في هذه المسألة: فقال أصحابنا بأن الشرع قد ورد بتخصيص قريش بالإمامة ودلت الشريعة على أن قريشا لا يخلو ممن يصلح للإمامة فلا يجوز إقامة الإمام للكافَّة من غيرهم. وقد نص الشافعي رضي الله عنه على هذا في بعض كتبه. وكذلك رواه زرقان عن أبي حنيفة، وقالت الضرارية بصلاح الإمامة من غير قريش مع وجود من يصلح لها من قريش. وزعم القرشي [القريش خـ] والأعجمي، فالأعجميُّ أولى بها والمولى أولى بها من الصميم.

وزعمت الخوارج أن الإمامة صالحة في كل صنف من الناس وإنما هي للصالح الذي يُحسنُ القيام بها ولهذا بايعوا نافع بن الأزرق ثم لقَطَرِيِّ بن الفُجاءة ولنجدة وعطيَّة وليس واحد منهم قرشيا.

وزعمت الزيدية من الروافض أنها لا تكون من قريش إلا في ولد عليّ رضي الله عنه ومن خرج من ولد الحسن والحسين شاهرا سيفه وفيه آلات الإمامة فهو الإمام. وزعمت الإمامية أنها اليوم في أحد مخصوص من أولاد علي رضي الله عنه واختلفوا في ذلك الذي ينتظرون خروجه.

وقالت الغلاة من الروافض أن الإمامة في الأصل في عليٍّ وولده، ثم أخرجوها إلى جماعة من غير قريش إمَّا بدعواهم وصية بعض الأئمة إليه وإما بدعواهم تناسخ الروح من الإمام إلى من زعموا أن الإمامة انتقلت إليه،  كالبيانية في دعواها انتقال روح الإله من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى بيان وكدعوى من ادعى أن الروح انتقلت إلى الخطاب الأسدي وكدعوى المنصورية نُبُوَّة أبي منصور العجلي وإمامته.

ودليل أهل السنة على أن الإمامة مقصورة على قريش قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش»، ولهذا الخبر سلَّمت الأنصارُ الخلافة لقريش يوم السقيفة فحصل الخبر وإجماع الصحابة دليلين على أن الخلافة لا تصلح لغير قريش [ولا اعتبار بخلاف من خالف الإجماع بعد حصوله. وإذا صح أن الخلافة في قريش خـ] وقد اختلف النسابون في قريش من هم؟ فذهب أكثرهم إلى أنهم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن عدنان فكل من كان من ولد النضر فهو [قرشي خـ]. وهذا اختيار أبي عبيدة معمر بن المثني وأبي عبيد القاسم بن سلام وبه قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه. وقالت التميمية قريش [ من خـ] ولد إلياس بن مضر وادخلوا أنفسهم في جملة قريش لأنهم من ولد إلياس بن مضر. وهذا اختيار أبي عمرو بن العلاء وأبي الحسن الأخفش وحماد بن سلمة الفقيه وعبيد الله بن الحسن القاضي وسوار بن عبد الله وروى مثله عن أبي الأسود الدؤلي. وقالت القيسية أن قريشا هم جميع ولد مضر بن نزار فأدخلت قيس غيلان في هذه الجملة وبه قال من الفقهاء مِسْعَر بن كدام وقد روى مثله عن حذيفة بن اليمان والقول الأول أصلح.

ملحق رقم 2: المصادر المرتبطة بالفكر السياسي الإسلامي خلال العصر الإسلامي الوسيط

• عبد الحميد الكاتب (ت 132ه/750م): رسالة في نصيحة ولي العهد، نصيحة الكتّاب وما يلزم أن يكونوا عليه من الأخلاق والآداب.
• عبد الله بن المقفع (109- 145ه/727- 762م): الدّرة اليتيمة والجوهرة الثمينة، رسالة الصحابة.
• محمد الأحول (شيطان الطاق) (كان حيا 148ه/760م): الغمامة، الرد على المعتزلة في غمامة المفضول.
• أبو يوسف (113- 182ه/731- 798م): كتاب الخراج.
• هشام بن الحكم (ت 199ه/815م): اختلاف الناس في الإمامة، التدبير في الإمامة.
• يحي بن آدم القرشي (ت 203ه/818م): الخراج.
• طاهر الخزاعي (ت 207ه/832م): الوصية في الآداب الدينية والسياسية الشرعية.
• سهل بن هارون (ت 215ه/830م): تدبير الملك والسياسة.
• عبد الملك الأصمعي (ت 122- 216ه/740- 831م): تقويم السياسة الملوكية والأخلاق الاختيارية، كتاب الخراج.
• القاسم العجلي (ت 226ه/841م): سياسة الملوك.
• شهاب الدين بن أبي الربيع (ت 227ه/842م): سلوك المالك في تدبير الممالك.
• الحسين الكرابيسي (ت 240ه/859م): الإمامة.
• علي بن مهزبار الأهوازي (ت نحو 250ه/865م): أدب الشريعة وأدب السياسة.
• يعقوب الكندي (ت 252ه/867م): الرسالة الكبرى في السياسة، رسالة في السياسة العامة.
• عمرو الجاحظ (150- 255ه/767- 869م): التاج في أخلاق الملوك، العثمانية.
• الإسكافي (ت 240ه/854م): استحقاق الإمامة، كتاب الحجاب، تنبيه الملوك والمكايد، أخلاق الملوك، السلطان وأخلاق أهله، أدب الملوك ويعرف بصحبة الملوك، كتاب القضاة والولاة، مدح التجارة وذم عمل السلطان.
• محمد الزيات (ت 262ه/876م): كتاب الغمامة.
• علي الطاطري (كان حيا 263ه/877م): الإمامة.
• أحمد بن سهل الأحول الكاتب (ت 270ه/883م): كتاب الخراج.
• أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (213- 276ه/864- 889م): كتاب السلطان.
• أحمد طيفور (204- 280ه/819- 893م): الملك الصالح والوزير المعين، خبر الملك العادل في تدبير المملكة والسياسة.
• إبراهيم الثقفي (ت 283ه/896م): كتاب الغمامة، كتاب الشورى.
• أحمد بن الطيب السرخسي (ت 286ه/899م): كتاب السياسة، الحسبة الكبرى، الحسبة الصغرى.
• يحي بن الحسين الهادي إلى الحق (ت 246- 298ه/859- 910م): مسألة في الإمامة، في تثبيت الإمامة.
• عبيد الله الخزاعي (ت 300ه/913م): رسالة في السياسة الملوكية.
• عبد الله بن شرشير (ت 303ه/906م): مسائل الإمامة.
• الحسن الأطروش (ت 230- 304ه/845- 917م): الإمامة، الاحتساب.
• محمد الواسطي (ت 306ه/918م): الغمامة.
• الحسين الحلاج (ت 309ه/922م): السياسة والخلفاء والأمراء.
• علي بن الماشطة (كان حيا 310ه/922م): كتاب الخراج.
• أحمد بن سليمان بن بشار الكاتب (ت 312ه/924م): كتاب الخراج.
• قدامة بن جعفر (كان حيا 320ه/932م): الخراج وصناعة الكتابة.
• الشلمغاني (ت322ه/934م):كتاب الإمامة.
• أحمد البلخي (235-322ه/849-934م):السياسة الصغيرة، السياسة الكبيرة.
• أبو الحسن الأشعري (270ه/330ه/773-942م): كتاب الإمامة.
• أحمد بن عقدة الكوفي (249-332ه/763-944م): كتاب الشورى.
• علي بن الجراح (245-334ه/759-946م): الكُتَّاب وسياسة المملكة وسيرة الخلفاء.
• أحمد بن الداية (ت334ه/946م):سياسة الأمراء وولادة الجنود المتضمن لثلاثة عهود.
• أبو نصر الفارابي (260-339ه/ 874-950م): السياسة، السياسة المدنية، تحصيل السعادة، آراء أهل المدينة الفاضلة، سر الأسرار لتأسيس السياسة وترتيب الرياسة.
• محمد بن عبد الله أبو بكر البردغي (ت340ه/951م): كتاب الإمامة، نقض كتاب ابن الروندي في الإمامة.
• محمد غلام ثعلب (261-345ه/875-956م): كتب الشورى.
• إخوان الصفا وخلان الوفا (ق4ه/10م): الخراج.
• محمد الكندي (283-350ه/897-961م):كتاب الولاة والقضاة.
• عبد العزيز بن حاجب النعمان (ت351ه/962م): أنس ذوي الفضل في الولاية والعزل.
• علي الفراء (ت352ه/963م): محاسن الملوك.
• إبراهيم القلانسي (ت359ه/970م): الإمامة.
• محمد القُمّي (368ه/978م): الرسالة في عمل السلطان.
• إسحق بن شريح (300-377ه/913-992م): كتاب الخراج.
• ابن بابويه القمي (306-381ه/918-991م): الإمامة والتبصرة من الخيرة، كتاب السلطان، كتاب الشورى.
• الصاحب بن عباد (326-385ه/937-995م): كتاب الوزارة، كتاب الإمامة.
• محمد القزاز (342-412ه/ 953-1021م): أدب السلطان.
• الحسين المغربي (370-418ه/970-1027م): السياسة.
• محمد الإسكافي (ت420ه/ 1029م):لطف التدبير في سياسة الملك.
• أحمد بن مسكويه (ت421ه/1030م): رسالة في ماهية العدل.
• يحي الناطق بالحق (ت424ه/1033م): الدعامة في تثبيت الإمامة.
• ابن سينا (370-428ه/970-1037م): رسالة في السياسة.
• عبد الملك الثعالبي (350-429ه/961-1038م): تحفة الوزراء، آداب الملوك.
• أبو نعيم الأصبهاني (336-430ه/ 948-1038م): كتاب الإمامة والرد على الرافضة.
• عبد المجيد الأخشيدي (كان حيا 435ه/1044م): المبوب بالتاريخ المسلوك فيما يصنع الملوك.
• محمد بن علي بن الطيب البصري (ت436ه/1044م): كتاب الإمامة.
• علي المرتضى(355-436ه/966-1044م): مسألة في العمل مع السلطان.
• الحسن بن علي الأهوازي (362-446ه/973-1074م): الفوائد والقلائد: فوائد السلوك فيما يحتاج إليه الملوك.
• أبو العلاء المعري (363-449ه/973-1057م): السجع السلطاني في مخاطبات الملوك.
• أبو الحسن الماوردي (364-450ه/975-1057م): الأحكام السلطانية، قوانين الوزارة وسياسة الملك، نصيحة الملوك، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق المَلِكْ وسياسة المُلِكْ، الحسبة.
• ابن حزم الأندلسي (374-456ه/994-1064م): كتاب السياسة.
• أبو يعلي الفراء (380-458ه/990-1066م): كتاب الأحكام السلطانية، الإمامة.
• إمام الحرمين الجويني (419-478ه/1028-1075م): غياب الأمم في الثياب الظلم.
• نظام الملك الطوسي (408-485ه/1018-1092م): سياسة نامة.
• محمد الحميدي (420-488ه/1029-1095م): الذهب المسبوك في وعظ الملوك.
• الحسن المرادي (كان حيا 487ه/1094م): كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة.
• ... بن... بن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان (أواخر ق5ه/11م): علم الوزارة.
• أبو حامد الغزالي (450-505ه/1058-1111م): التِّبر المسبوك في سياسة الملوك، سر العالمين وكشف ما في الدارين، فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية.
• أحمد بن الصفي الميموني (ت505ه/1111م): التبر المسبوك في سياسة الملوك.
• محمد بن اللبانة (ت507ه/1113م): نظم السلوك في آداب الملوك.
• الطرطوشي (451-520ه/1059-1129م): سراج الملوك.
• أبو الحسن علي بن محمد الأهوازي الحنفي (كان حيًّا 542ه/1147م): التبر المنسبك في تدبير الملك أو تهذيب الرياسة وترتيب السياسة.
• عدنان العين زربي (ت548ه/1153م): رسالة في السياسة.
• أحمد بن عبد الله بن عبد الرؤوف الأندلسي (عاش أواخر القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس): رسالة في آداب السبة والمحتسب.
• محمد بن أحمد بن عبدون التجيبي الأندلسي الأشبيلي (عاش أواخر القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس): رسالة في القضاء والحسبة.
• أبو عبد الله محمد بن أبي محمد السقطي المالقي الأندلسي (أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجري): آداب السبة.
• ابن حمدون (495-562ه/1102-1167م): التذكرة الحمدونية.
• ابن ظفر الصقلي (ت568ه/1173م): سلوك المطاع في عدوان الطباع.
• عبد الله المالقي (ت574ه/117م): أنجم السياسة.
• ابن الجوزي (510-597ه/1116-1201م): الشفاء في مواعظ الملوك والخلفاء.
• شيث (شبيب) بن الحاج (510-597ه/1116-1202م): تهذيب ذهن الداعي في إصلاح الرعية والراعي، لطائف السياسة في أحكام الرياسة.
• بدل بن إسماعيل التبريزي (كان حيا 601ه/1205م): النصيحة للراعي والرعية.
• أحمد الذهبي الأندلسي (554-601ه/1159-1203م): حسن العبارة في فضل الخلافة والإمارة.
• أسعد بن ميماتي (544-606ه/1149-1209م): قوانين الدواوين.
• علي بن ظافر بن الحين الأزدي (565-613ه/1170-1216م): أساس السياسة.
• يعقوب المنجنيقي (554-626ه/1159-1229م): عمدة السالك في سياسة الممالك.
• القلعي (ت630ه/1233م): تهذيب الرياسة في ترتيب السياسة.
• علي بن الأثير (555-630ه/1160-1233م): آداب السياسة.
• جمال الدين بن أبي حجة (عاش في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي):رعاية الرعية.
• عبد الله بن حمويه (572-642ه/1177-1244م): السياسة الملّوكية.
• ابن الحاج الأشبيلي (ت 647ه/1249م): الإمامة.
• محمد بن طلحة القرشي ( 582-652ه/1176-1254م): العقد الفريد للملك السعيد.
• سبط ابن الجوزي (582-654ه/1186-1257م): الجليس الصالح والأنيس الناصح.
• عبد الله بن أبي النجم (ت 656ه/1259م): الحسبة والدور ما يختص به الإمام وغيره من الأمور.
• عثمان بن إبراهيم النابلسي (ت660ه/1261م): لمع القوانين المضية في دواوين الديار المصرية.
• الخواجة نصر الدين الطوسي (ت672ه/1273م): الإمامة.
• محمد بن منصور الحداد الموصلي (كان حيا 673ه/1274م): الجوهر النفيس في سياسة الرئيس.
• المبارك بن خليل الخازندار البدري الموصلي (كان حيا 672ه/1283م): آداب السياسة بالعدل ونبيين الصادق الكريم المهذب بالفضل من الأحمق اللئيم المكذب النذل.
• محمد بن محمد بن محمد الخطيب (كان حيا 683ه/1284م): فسطاط العدالة في قواعد السلطنة.
• المظفر العمر (ت688ه/1289م): تبصرة الملوك وتذكرة السلاطين في التحذير من أعوان الشياطين.
• عمر بن محمد بن عوض السنامي (الشامي) (ت 696ه/1297م): نصاب الاحتساب.
• ابن الطقطقى (660-709ه/1262-1309م): الفخري في الآداب السلطانية.
• الحسن بن عبد الله العباسي (كان حيا قبل 716ه/1316م) آثار الأول في ترتيب الدول.
• ابن الرفعة المصري (645-710ه/1247-1310م): بهجة الوزراء، الرتبة في الحسبة.
• ابن تيمية (661-728ه/1263-1328م): السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، الحِسْبة.ذ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
• ابن الإخوة القرشي (648-729ه/1250-1329م): معالم القربة في أحكام الحسبة.
• أحمد بن محمود الجيلي الأصفيدي (كان حيا 729ه/1329م)منهاج الوزراء في النصيحة.
• بدر الدين بن جماعة (635-733ه/1241-1333م): تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام.
• ابن سيد الناس (671-734ه/1273-1334م): السبيل المبين في حكم صلة الأمراء والسلاطين.
• يوسف المغربي (الغربي) المدني (ت743ه/1343م): رسالة في فضل العلماء وحقوق الملوك.
• أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبي (673-748ه/1274-1348م): رسالة في الإمامة العظمى.
• أبو عبد الله محمد السلمي (672-750ه/1273-1349م): طاعة السلطان وإغاثة اللهفان.
• ابن هذيل الأندلسي (من أعيان القرن الثامن الهجري والرابع عشر الميلادي): عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة.
• ابن القيم الجوزية (691-751ه/1292-1350م): الطرق الحكمية في السياسة الشرعية.
• الطرطوسي (720-758ه/1320-1357م): تحفة الترك يما يجب أن يعمل به في الملك.
• محمد بن نباتة (6865-768ه/1287-1366م): سلوك دول الملوك، كتاب تدبير الدول.
• عبد الوهاب السبكي (767-771ه/1327-1370م): معيد النعم ومبيد النقم.
• محمد بن محمد بن عبد الكريم بن رضوان بن عبد العزيز البعلي (ت774ه/1372م): حسن السلوك في سياسة الملوك.
• مجهول لم يُعثر على اسمه: قانون السياسة ودستور الرياسة.
• عبد الرحمان بن نصر بن عبد الله الشيرازي الطبري (ت774ه/1372م): المنهج المسلوك في سياسة الملوك، نهاية الرتبة في طلب الحسبة.
• لسان الدين الخطيب (713-776ه/1313-1374م): الإشارة إلى أدب الوزارة، رسالة في سياسة أو مقامة في سياسة أو رسالة في غرض السياسة، كتاب بستان الدول، تخصيص الرياسة بتلخيص السياسة، رسالة في أحوال خدمة الدول، الشهب اللامعة في السياسة النافعة. 
• محمد بن منكلي (ت784ه/ 1382م): العقد المسلوك فيما يلزم جليس الملوك.
• موسى بن يوسف أبو حمو بن زيان (ت791ه/1379م): واسطة السلوك في سياسة الملوك.
• مجهول (كان حيّا 795ه/1393م): محاسن الملوك وما يجب أن يتبع في خدمتهم من الآداب.
• محمد بن أحمد بن بسّام المحتسب (توفي قبل نهاية القرن الثامن الهجري): نهاية الرتبة في طلب الحسبة.
• عبد الرحمان بن خلدون (732-808ه/1332-1406م): مقدمة ابن خلدون.
• القلقشندي (756-821ه/1355-1418م): صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، مآثر الإنافة في معالم الخلافة.
• محمد الناشري (733-861ه/1332-1418م): النصائح الإيمانية لذوي الولايات السلطانية.
• أبو بكر الحصني (752-829ه/1351-1426م): رسالة الإمامة.
• أحمد المهدي (775-840ه/1373-1437م): كتاب الإمامة.
• محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن ميكائيل الخيرميتي (الخيربيتي أو الجيزي)، (كان حيًا 845ه/1441م)، فاضل أشعري، حنفي: الدرّة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والوزراء.
• ابن حجر العسقلاني (كان حيًا 852ه/1449م): رسالة في مسألة شراء السلطان لأرض من بيت المال نفسه.
• محمد بن محمد بن خليل الأسدي (كان حيًا 854ه/1450م): التيسير والاعتبار والتحرير والاختبار فيما يجب من حسن التصرف والاختيار في شؤون الممالك الإسلامية، لوامع الأنوار ومطالع الأسرار في النصيحة التامة لمصالح الخاصة والعامة، النصيحة الكلية في كل ما يتعلق بمصالح الراعي والرعية، الإشارات العليّة فيما يوجب الخلل والفساد والصلاح في أحوال الرعيّة.
• ابن عربشاه (791-854ه/1389-1450م): فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء،
• علي بن أحمد بن محمد الشيرازي (788-861ه/1386-1457م): تحفة الملوك والسلاطين في الأخلاق والسلطنة والوزارة.
• صالح البلقيني (791-868ه/1389-1464م): إيضاح البرهان في الثناء على السلطان.
• عمر بن موسى بن محمد الرجراجي (ت868ه/1464م): رسالة في السلطنة وما للسلاطين وما عليهم.
• خليل بن شاهين (813-873ه/1410-1468م): زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والسالك.
• أحمد المحمدي الأشرفي (ت875ه/1470م): البرهان في فضل السلطان، منهج السلوك في سيرة الملوك.
• طوغان شيخ محمدي (كان حيًا 878ه/1473م): المقدّمة السلطانية في السياسة الشرعية.
• مجهول وجه كتابه إلى السلطان الملك الأشرف قايتباي: التبر المسبوك في نصيحة الملوك.
• محمد الكافيحي (788-879ه/1386-1474م): سي الملوك والحكام المرشد لهم إلى سبيل الحق والأحكام.
• علي القلصادي (815-891ه/1412-1486م): النصيحة في السياسة العامة والخاصة.
• محمد المصري (ت893ه/1488م): بذل النصائح الشرعية فيما على السلطان وولاة الأمور وسائر الرعية.
• محمد بن الأزرق (ت896ه/1491م): بدائع السلك في طبائع الملك.
• عز الدين الهادي إلى الحق (845-900ه/1441-1495م): رسالة غراء في بيان أحكام مثبت الإمامة ونافيها.
• مجهول (وجه كتابه إلى السلطان قنصوه الغوري): آداب الملوك.
• مجهول (وجه كتابه إلى السلطان قنصوه الغوري): تذكرة الملوك إلى أحسن السلوك.
• يوسف المبّرد (840-909ه/1436-1503م): إيضاح طرق الاستقامة في بيان أحكام الولاة والإمامة، الكياسة في السياسة.
• محمد المغيلي (ت909ه/1503م): تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين.
• جلال الدين السيوطي (849-911ه/445-1505م): الرسالة الناصرية في إطاعة السلطان، ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين، قدح الدراسة في منهاج السياسة، الرتبة المنيفة في فضل السلطنة الشريفة، الرسالة السلطانية، رسالة إل ملوك التكرور "منطقة غرب إفريقيا"، آداب الملوك.
• السمهودي (844-911ه/1440-1506م): اللؤلؤ المنثور في نصيحة ولاة الأمور.
• مجهول (وجه كتابه إلى السلطان قنصوه الغوري سنة 915ه/1509م): الطريق المسلوك في سياسة الملوك.
• أبو الفضل محمد بن الأعرج (ت925ه/1523م): تجرير السلوك في تدبير الملوك.
• أحمد الجيعان (ت930ه/1424م): قوانين الدواوين.
• علي علوان الحموي (873-936ه/1468-1530م): النصائح الشريفة والمواعظ الظريفة في موعظة السلطان والخليفة.
• أحمد بن كمال باشا (ت940ه/1533م): السياسة الشرعية، خلاص الأمة في معرفة الأئمة.
• علي الشيرازي (توفي بعد 945ه/1538م): دستور الوزراء، مختصر التبر المسبوك في نصائح الملوك.
• محمد اليسيني (ت959ه/1551م): حقوق السلطان على الرعية وحقوقهم عليه.
• إبراهيم بن الحنبلي (877-959ه/1472-1552م): مصابيح أرباب السياسة ومفاتيح أبواب الكياسة.
• علي بن عراق الكناني (907-963ه/1502-1556م): نهج السلوك إلى معرفة سيرة الخلفاء والملوك.
• زين الدين بن نجيم الحنفي (ت970ه/1063م): السياسة الشرعية.
• أحمد بن حجر (909-973ه/1503-1566م): تحرير المواعظ والنصائح لأرباب الولايات والمصالح.
• صالح الخزرجي (ت975ه/1567م): جواهر العقد الفريدة وبُغية الملك السعيدة.
• علي المتقي (885-975ه/1480-1567م): الرتبة الفاخرة في نصائح الملوك.
• ددة جونكي (ت975ه/1567م): السياسة الشرعية.
• ولي الله الحائري (كان حيا 981ه/1573م): تحفة الملوك في الزهد وأحوال الملوك الماضين وحسن العهدل والحكم وقبح الظلم.
• محمد بن بالي التركي (ت 986ه/1588م): تحفة الولاة والأمراء والأكابر في أساس السياسات الدينية والدنيوية والأدب الفاخر.
• مجهول (كان حيًّا 986ه): شرو الإمامة وسياسة المملكة.
• مصطفى عالي الكليبولي (ت1009ه/1599م): نصيحة السلاطين.

ملحق رقم: 3[318]

باب السابع والعشرون: المشاورة والنصيحة:

"...والإشارة الثانية أنه قال:﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ آل عمران: الآية159 . فإذا قيل لنا: كيف يشاورهم وهو نبيهم وإمامهم، وواجب عليهم مشاورته وأن لا يفصلوا أمراً دونه؟ قلنا: هذا أدب أدب الله به نبيه عليه السلام، وجعله مأدبة لسائر الملوك والأمراء والسلاطين. لما علم الله تعالى ما في المشاورة من حسن الأدب مع الجليس ومساهمته في الأمور، فإن نفوس الجلساء والنصحاء والوزراء تصلح عليه وتميل إليه وتخضع عنوة بين يديه، شرعه لنبيه صلى الله عليه وسلم ولذي الإمرة من أهل ملته .الطرطوشي، سراج الملوك، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، فأمرهم بالنزول فقال له سعد : يا رسول الله إن كان هذا بأمرك فسمعاً وطاعة، وإن يكن غير ذلك فليس بمنزل. فسمع منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ارتحلوا! ومن أقبح ما يوصف به الرجال، ملوكاً كانوا أو سوقة، الاستبداد بالرأي وترك المشاورة، وسنعقد للمشاورة باباً إن شاء الله تعالى، إن الأنبياءلم يورثوا ديناراً ولا در هماً وإنما ورثوا العلم، ففي تعظيمهم وتقريبهم امتثال لأمر الله وتعظيم لمن أثنى عليه، ويجب ترفيع مجالسهم وتتميز مواضعهم عن من سواهم، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: ١١) . وفيه استمالة قلوب الرعية وخلوص نياتهم لسلطانهم واجتماعهم على محبته وتوقيره، فواجب على السلطان أن لا يقع أمراً دونهم ولا يفضل حكماً إلا بمشاورتهم، لأنه في ملك الله يحكم وفي شريعته يتصرف، وأقل الواجبات على السلطان أن ينزل نفسه مع الله منزلة ولاته معه، أليس إذا خالف واليه أمره وما رسمه له من الأحكام عزله وعاقبه ولم يأمن سطوته؛ وإذا امتثل أوامره إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا در هماً وإنما ورثوا العلم، ففي تعظيمهم وتقريبهم امتثال لأمر الله وتعظيم لمن أثنى عليه، ويجب ترفيع مجالسهم وتتمييز مواضعهم عن من سواهم، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: ١١) . وفيه استمالة قلوب الرعية وخلوص نياتهم لسلطانهم واجتماعهم على محبته وتوقيره، فواجب على السلطان أن لا يقع أمراً دونهم ولا يفضل حكماً إلا بمشاورتهم، لأنه في ملك الله يحكم وفي شريعته يتصرف، وأقل الواجبات على السلطان أن ينزل نفسه مع الله منزلة ولاته معه، أليس إذا خالف واليه أمره وما رسمه له من الأحكام عزله وعاقبه ولم يأمن سطوته؛ وإذا امتثل أوامره. وقيل لملك بعد زوال ملكه: ما الذي أذهب ملككم؟ قال: ثقتي بدولتي واستبدادي بمعرفتي، وإغفالي استشارتي وإعجابي بشدتي وإضاعتي الحيلة في وقت حاجتي والتأني عند عجلتي..."